فلسطين الثورة والدولة و”الطَقِع فَقِع”

في مقابل الإبداع النضالي في العقل الشعبي الفلسطيني، يبدو هناك خلل بنيوي في العقل الثوري الفلسطيني، حيث إنّ الأخطاء تتكرر بذات الوتيرة المملة، ولكنها للأسف قاتلة، بغض النظر عن مسمى التنظيم أو الفصيل، وبغض النظر عن منطلقاته الفكرية والأيديولوجية والسياسية.

ومكمن هذا الخلل هو لوثة الخلط بين الثورة والدولة، فالعسكرية الفلسطينية تتصرف على قاعدة الثورة، بينما السياسية منها تسلك سلوك الدولة، والنتيجة هي فشل عسكري وكوارث سياسية؛ فالسياسي يتحكم في القرار، فيحبط عمل العسكري، باعتباره تكتيكًا، وكان هذا مأخذًا فلسطينيًا على ياسر عرفات، كذلك مأخذًا من بعض دول محور المقاومة كسوريا، كما ذكر فاروق الشرع في مذكراته، عن سياسة التفريط بالاستراتيجي لمصلحة التكتيكي، في السياسة العرفاتية.

وهنا أذكر مثالًا عن الخلل، وهو مثال ذكره الراحل أحمد جبريل، الأمين العام للجبهة الشعبية-القيادة العامة، حيث قال “إنّ ياسر عرفات في ذات عمليةٍ، قام بالإعلان عنها قبل وقوعها”. ولا أريد هنا تبني استنتاجات أحمد جبريل عن تعمد الإعلان وأهدافه والارتباطات الأمنية، ولكن أريد الاستدلال من هذه الواقعة، على الخلل الفادح بين العقل السياسي المتخم بأوهام الدولة، والعقل الشعبي والعسكري الإبداعي، المكتنز بروح الثورة.

في أحد لقاءات ياسر عرفات بكوادر فتحاوية من الداخل والخارج، وكان اللقاء في العاصمة الليبية طرابلس أوائل التسعينيات، ثار الحضور على بعض مقترحات عرفات، فحاول صلاح خلف -أبو إياد- تهدئة الثائرين، ليس بمحاولة تفنيد ما قال عرفات مثلًا، أو بمحاولة تصحيح الفهم، أو بأيّ وسيلةٍ عقلية أو منطقية أخرى، ولكنه قال”هاد -في إشارة لعرفات- دموعه في جيبه، والآن بيطلعها”. والحقيقة أنّ ياسر عرفات بالفعل بدأ وكأنه يبكي، ولكن الغريب هو هدأة الكادر الثائر، رغم أن لا شئ تغير، فالقرارات ذاتها والتوجهات ذاتها، ومرت كرمى لدموعه.

فالعقل الإبداعي الذي تجلى في الانتفاضة الأولى، تم تقديمه على مذبح التكتيك السياسي الذي أنتج أوسلو، وهذا تاريخ طويل عاشته القضية الفلسطينية، بين تناقض الثورة والدولة، فياسر عرفات كان يتصرف سياسيًا كرئيس دولة وليس كقائد ثورة، وهو ما جعل القضية الفلسطينية رهينة التجاذبات العربية، نتيجة هذا التشوه والخلط القسري بين الميدان النضالي والسلوك السياسي.

كذلك احترفت الفصائل إصدار البيانات فخمة الشكل جوفاء المضمون، فلم يعد العدو يأخذها على محمل الجدّ، وحتى الصديق كذلك لم يعد يثق بمضمونها، وقد تحولت مؤخرًا لبياناتٍ تشبه بيانات الأنظمة العربية المتهالكة، أواخر التسعينيات، عن الشجب والتنديد.

وكثير من هذه الفصائل أصبح بلا أثرٍ لولا البيانات، ومنها فصائل لم يعد لها منهج أو تأثير، فالجبهة الشعبية مثلًا في غزة، تتماهى في مواقفها مع مواقف حماس، وفي الضفة الغربية هي مع السلطة ومواقفها، وفي سوريا هي مع سوريا، وكذلك الجبهة الديمقراطية.

من دون استثناء فقدت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية القوة العسكرية، وبقيت حركة فتح ممسكة بقوة المال والقرار السياسي، لذلك انتقل التشوه من الخلط بين الثورة والدولة، إلى الخلط بين المنظمة والسلطة، وبين السلطة المؤقتة والدولة تحت الاحتلال. وانتقلت القوة العسكرية لحركة حماس، حيث انتقل إليها ذات الفايروس، الإبداع العسكري والعفن السياسي، بين الإبداع النضالي و”الطقع فقع” السياسي. وكأحداثٍ على سبيل المثال لا الحصر، حينما خرجت حماس بالتوقيع على وثيقتها الجديدة، التي أخذت بعين الاعتبار الموافقة على مبدأ أراضي 67، أحدث ذلك استياءً شعبيًا، مما حدّا بالسياسي للاستثمار في الثقل العسكري، حيث خرج الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة، من دون مناسبة متحدثًا عن ملف الأسرى ومفاوضات التبادل وقدرة المقاومة على إنجاز الصفقة.

ومؤخرًا، في قضية نفق الحرية وتحرير الأسرى لأنفسهم، وعلى مدار أسبوع، لم يتوقف سيل البيانات السياسية الفصائلية، من الوعد بالحماية وتوعد الاحتلال في حال تعرض الأسرى للخطر، ويبدو أنّ العقل السياسي توقع نجاة الأسرى بحكم عبقرية العملية، فمن الضرورة أن العمل خارج الأسوار سيكون أسهل، ولكن حين تمت إعادة القبض عليهم، أُسقط في أيدي أصحاب بيانات “الطقع فقع”، فلم يجدوا منقذًا سوى الاستثمار مجددًا في شعبية أبو عبيدة عربيًا وفلسطينيًا، فخرج ليتحدث عن وضع الأسرى على رأس قائمة التبادل، رغم أنّه من الطبيعي أن يكونوا على رأسها قبل عملية النفق، ومن البديهي أن يكونوا كذلك بعدها، ولكن العقل السياسي العفن ليس مهتمًا بالعبث بشعبية الناطق العسكري، بقدر اهتمامه بالتغطية على سوءة “الطقع فقع” التي مارسها على مدى أسبوع.

كذلك حين استُدعي اسماعيل هنية إلى المغرب -وكلمة “استدعاء” هذه استعملها كاتب إخواني جزائري، وهو على علاقة وثيقة بإخوان المغرب- وحاول تسويق حكومة التطبيع الإخوانية، ومنحها فرصة الاستثمار في معركة سيف القدس لأهدافٍ انتخابية رخيصة، فتلقوا صفعة شعبية انتخابية قاسية، فأهانوا فلسطين وأهانوا معركة سيف القدس، ويقول الكاتب ذاته أهانوا هنية نفسه.

وبالعودة لملف الأسرى، فرغم معرفة السياسي بقرار التهدئة الذي اتخذه بغض النظر عن الأسباب، لم يمنعه ذلك من وضع أبو عبيدة في وضعٍ خطر، حيث هدد وتوعد في حال التعرض لجنين، ولكن مع تطور الأحداث وارتقاء الشهداء، خرج بيان الغرفة المشتركة هزيلًا، مما حدا بحركة الجهاد الإسلامي للتبرؤ منه.

ولا أريد الدخول في الملف السوري لشدة شجونه، ولكن توقفت عند تصريح وزير الخارجية السوري فيصل المقداد “تسرنا كل المبادرات لعودة العلاقات مع الدول العربية الشقيقة”، وهذا التصريح قطعًا لا يشمل حركة حماس، لأنّها ليست دولة، رغم أنّها تتصرف كالدول، ولهذا يمتاز سلوكها السياسي بالكساح، فيتصرفون على قواعد خاطئة ومن منطلقات خاطئة، فالبندقية الثائرة ليست في خدمة السياسي، بل السياسي يجب أن يكون في خدمة البندقية.

إنّ الاستمرار في هذا العبث السياسي، بين الإبداع الثوري و”الطقع فقع” السياسي، سيجعل التاريخ يعيد نفسه، وتكون دموع أبو عبيدة مدخلًا لكل العبث بالقضية، كما كانت دموع عرفات يومًا، أو كما قال نبيل عمرو يومًا: إنّ ياسر عرفات حكم الشعب الفلسطيني بآيتين ودمعة.

ابو عبيدةاساسيحماسغزةفتحفلسطينياسر عرفات