قصة قصيرة: في بروكسيل مجزرة


فاطمة شاهين – خاص الناشر |

الساعة 5:00 فجرًا
هذا هو التوقيت المثالي لتصحيح المسابقات. رضا نائم. منذ ولادته قبل ستة أيام وهو لا يغفو بانتظام. وجهه المتورد الممتلئ يكاد يغرق في بطانية الصوف السُكّرية، وحده طرف شفتيه الرقيقتين وجفن عينه المغمض يظهران من بين قضبان السرير الخشبي الأبيض.
جلست آية على مهل، كي لا توقظه. حمدت الله على طولها الذي يسمح لها بمراقبة رضا، طفلها الأول، من على مكتبها الذي احتل مع رضا وسريره غرفة نومها. عقدت شعرها الأسود على شكل كعكة في أعلى رأسها، وفتحت المسابقة الأولى للصف الثانوي الأول.
لأول مرة تتذمر آية، هي الهادئة المنتخبة أكثر من مرة معلمة اللغة العربية المثالية في مدارس الرياحين في منطقة بئر حسن، هي التي رغم اجازة الامومة أبت إلا ان تصحح لتلامذتها بنفسها وتسلم النتائج في اليوم المحدد مهما كلّفها الأمر، تمتمت بغضب “أجمل قصة عن مجزرة صبرا وشاتيلا؟ أجمل؟ بس نفسي اعرف مين هالعبقري بالإدارة العامة اللي جمع “أجمل” و”مجزرة” بعنوان واحد وبعتلنا ياه بلا نقاش”.

الساعة 5:10
انطلقت آية بالتصحيح بشكل أسرع بعد انهاء المسابقة الأولى.
في المسابقة الثالثة تأملت قليلًا بالمقدّمة “سأحكي لكم قصة مذبحة قالوا انها هزت العالم، هو نفسه العالم الذي بقي بعدها بلا حراك”.
رفعت نظرها نحو رضا، لا يزال كما وضَعته، بلا حراك. انتفضت كأنّما الكهرباء مسّتها، كتمت صرخة وجعٍ من قيامها المفاجىء، واقتربت نحو سريره. وضعت خدّها الأسمر بجانب أنفه لتتحسس أنفاسه، إنه يتنفّس، الحمد لله.

الساعة 5:23
“اقتحموا البيوت على مدار يومين، أرهبوا الناس، ذبحوهم فوق موائد طعامهم،…”
رمت القلم الاخضر من يدها، أحسّت بوخزٍ في صدرها، لا يزال متحجّرًا من أثر دفق الحليب، ولكن الآلام كلها تهون لأجل ان يتغذّى رضا من الرضاعة الطبيعية فقط، هذا ما تردده دومًا، المهم طعام رضا، وكل شيءٍ بعده يهون.

الساعة 5:30
“يحكي ماهر، الشاهد الناجي من المجزرة، أنه سمع صوتًا يصدر من فم الطفل الذي رآه فوق أمه المقتولة، رآه وهم يأخذونه إلى جهةٍ مجهولة، رأى الدم المتجمد على وجهها ويدها اليمنى لا تزال تحضن الطفل، كان هو نفسه الصوت الذي يصدره الأطفال حين يرضعون. ولكن سرعان ما اكتشف الرجل الذي يختطف ماهر، ان الطفل لا يزال حيًّا فقال لرجل معه، أن يقتل الطفل. رأى ماهر بطرف عينه كيف أمسك ذلك المجرم بالطفل ورماه، فارتطم بالحائط، ثم وقع على الأرض واختفى الصوت”
فتح رضا فمه وبدأ يُصدر منه صوتًا كالذي تسمعه آية حين ترضعه وتقول “برافو حبيبي الشطور اللي عرف كيف يرضع لوحده”. قامت عن كرسيها البلاستيكي بتأنٍّ، تحضّرت لجولة من الرضاعة لا يهمها حتى متى ستستمر، إلا ان رضا اطبق شفتيه فجأةً، واختفى الصوت.

الساعة 5:43
“قتلوا الرجال، قال جاره ان اسمه كان أحمد، وأنه لا ينسى مشهد رأسه مقطوعًا ومعلقًا على عصا في وسط الشارع. قتلوا النساء والأطفال، رايتُ في صور المجزرة طفلًا مقتولًا راسه ملفوف بقبعة، كان على الأرض فوق بقعة من المياه، كان يشعر بالبرد حتمًا. ما أبشع ما فعلوه، يا لهمجيتهم! الويل…”
لمحت آية حركة فجائية كتلك التي لمحتها في سرير رضا، وجدت رضا وقد التفت برأسه الملفوف بالقبعة القطنية من اليمين إلى اليسار. لا تترك آية قطعة من الثياب الا تلبسه إياها، كي لا يشعر بالبرد، كي لا يمرض. هي لا تدري إذا مرض يومًا كيف تتصرف، الأم الثلاثينية الناضجة تردد دومًا أنها ربما تنهار إذا ما أصابه مكروه “اتركوني إنهار، وتصرّفوا إنتو” تُردّد مازحةً منذ أن ولد.

الساعة 5:45
“ما اقسى الصورة التي تطفو فيها يدٌ فوق بقعة من الدم، كانت…”
كانت يد رضا قد خرجت من البطانية، ابتسمت آية. هي تبتستم لأي حركة يقوم بها، تفرح بقوته. صوّرَتْ يده البارحة وهي تحتضن إصبع يدها، أنزلتها على الفيسبوك مع الكثير من القلوب وجملة “يدي التي عليها أستند”. حصلت على 243 “لايك”.

الساعة 5:50
“فتحوا بطون النساء الحوامل، وأخرجوا الأجنّة وقتلوها، ولم يحاسبهم أحد. اصبحوا رؤساء، ووزراء، تجوّلوا في الشوارع وزاروا المقاهي واحتفلوا بأعياد ميلادهم ولم يحاسبهم أحد! يقولون إن التاريخ سيحاسبهم في مزبلته، أنا لا أريده أن يرميهم في مزبلته، أنا كنت اود لو ان القاضي في بروكسيل رماهم في السجون”
صرخ رضا، صرخ وكأنه رأى كابوسًا، صرخت آية من ألمها وتحسست جرح العملية القيصرية، كادت تنفتح غرز بطنها من ارتطامها بالطاولة وهي تقوم مسرعة نحو رضا.
صرخ مجدّدًا بعد صرختها، أسرعت نحوه رغم ألمها، لمحت من زجاج النافذة ان الفجر لم ينته بعد، تناولت رضا بسرعة واحتضنته، احتنضته بقوة.

اساسيصبرا وشاتيلافلسطينمجزرة صبرا وشاتيلا