“إن الذي أبلغنا هو الذباب. إذ كان طنين الملايين منه أبلغ من الرائحة. هذا الذباب الأزرق الكبير تهافت علينا في البداية وكأنه لا يفرق بين الأحياء والأموات… ولا بد من القول إن ذلك الذباب لم يعرف التحيز. فلم يكن يأبه اطلاقًا بهوية الجثث حتى ولو كانت لضحايا المجازر الجماعية. وكان سيتصرف بالطريقة ذاتها لو كانت الجثث لضحايا اي مجتمع آخر. ولا بد ان الامر كذلك خلال ايام الوباء الكبير في اوروبا”.
مقتطف قصير لروبرت فيسك احد ابرز المراسلين في الشرق الاوسط، وواحد من بين اربعة صحفيين عايشوا سنوات الحرب في لبنان، في توصيفه لمجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، في مؤلفه “ويلات وطن، صراعات الشرق الاوسط وحرب لبنان”.
في 24 تموز 1981 وقعت منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية أول اتفاق رسمي تم التوصل اليه بين الطرفين، وذلك بمسعى من فيليب حبيب المبعوث الخاص للرئيس الاميركي رونالد ريغان الى الشرق الاوسط، واطلق عليه “اتفاق فيليب حبيب”؛ حيث نص على وقف اطلاق النار بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان وتعرض مخيمي صبرا وشاتيلا للحصار والقصف المتواصل طيلة 88 يومًا. بالاضافة الى خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان الى عدد من الدول العربية مقابل الحصول على ضمانات اميركية بحماية المخيمات واللاجئين وعدم دخول الجيش الاسرائيلي الى بيروت مع نشر قوات متعددة الجنسيات لضمان الاتفاق.
بموجب الاتفاق كانت قد انجزت قوات منظمة التحرير الفلسطينية انسحابها من لبنان، ليصار بعدها في الرابع عشر من ايلول من العام نفسه الى اغتيال الرئيس بشير الجميل المنتخب في 23 من شهر آب.
أوعز جيش العدو الاسرائيلي لقواته بتطويق مخيم صبرا وشاتيلا في آخر ساعات نهار 16 أيلول، تسهيلًا لمهمة ميليشيا الكتائب وقوات سعد حداد في ارتكاب واحدة من أفظع المجازر في التاريخ. ومع حلول الظلام في تلك الليلة كانت القنابل المضيئة الاسرائيلية تنير درب المدججين بالوحشية والارهاب، متسلحين بالرشاشات والسكاكين والسواطير وما تيسر من عدة الاجرام والاغتصاب وبقر البطون.
في ذلك الوقت كان ارييل شارون وزيرًا للحرب، وهو صاحب الدور المباشر لقيادة هذه العملية بحسب تقرير لجنة كاهان الاسرائيلية المكلفة بالتحقيق في “الاحداث” التي وقعت في مخيمي صبرا وشاتيلا. وفي وثيقة صادرة عن مكتب شارون نفسه وردت عبارة: “لتنفيذ عملية المخيمين يجب ارسال ميليشيا الكتائب… قوات “الدفاع الاسرائيلي” سوف تتولى قيادة القوات في المنطقة”، اي المنطقة الخاضعة لسيطرة الجيش الاسرائيلي الذي انشأ مركزًا اماميًا للقيادة على سطح مبنى على بعد 200متر من جنوبي غربي مخيم شاتيلا.
ما شوهد في صباح 18 ايلول وبعده في المخيم لا يستعصي على الوصف فحسب، وإنما يجعل من الاسهل نقل الصورة بلغة الفحص الطبي الذي لا يرحم، بحسب تعبير فيسك. فالموتى كانوا في كل مكان، في الطريق والازقة، في الساحات الخلفية، بين الركام وفوق النفايات.
لم يستعص المشهد على الوصف حصرًا، بل حتى على الاحصاء؛ فتضاربت الارقام وتخالطت الجثث وتعددت المقابر الجماعية، الا ان تقديرات الباحثة الفلسطينية بيان نويهض الحوت المسندة إلى مقارنة 17 قائمة لاسماء الضحايا وعدة مصادر تشير الى ما يناهز 1300 ضحية على الاقل.
ما طمره الاسرائيلي وحلفاؤه آنذاك في التراب من اجساد اطفال وأجنة ونساء وشيوخ، وثقته ذاكرة شهود وشهادات وفاة ومفقودين، وذاكرة ازقة ودكاكين وبيوت متهالكة، وناجين يكبرون ويرهبونهم: “سوف تلد الحوامل ارهابيين، وسيصبح هؤلاء الاطفال ارهابيين عندما يكبرون.” (جاء على لسان كتائبي متورط في المجزرة لدى استجوابه من قبل الجنود الاسرائيليين).