بالنظر إلى طبيعة الوطن العربي من حيث الجغرافيا وتوزع الخيرات وتنوعها في مختلف أطرافه نجد في مكوناته كل مقومات القوة المتكاملة التي تؤهله للقيادة العالمية أو لتصدر مركز القوة والاقتدار والسلطة في العالم أو بالحد الأدنى أن يكون قطبًا مناظرًا لغيره من الأقطاب الإقليمية في العالم.
من هنا نفهم لماذا كانت سايكس-بيكو قديمًا وامتدادها حديثًا نحو تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ تحت ما يسمى الشرق الأوسط الجديد تطبيقًا لسياسة “فرق تسد” التي تنتهجها دول الاستكبار لتفرض سيطرتها على كل دول المنطقة.
سورية ولبنان تشكلان معًا حصنًا منيعًا في وجه مشروعهم في استعباد الشعوب وإضعافها وتسخيرها خدمةً لمصالحهم؛ سورية بسيادة موقفها وحنكة قيادتها واستقلالية قرارها ولبنان بكونه قلب محور المقاومة وباعتباره مصنع منظومته القيمية والعقائدية ونموذجًا فريدًا يجسد تلك القيم النضالية والثورية من خلال ملاحم البطولة ولوحة الانتصارات المرسومة في ذاكرة الوعي العربي والتي تبث فيه روح الأمل وتوقظ فيه دوافع العمل من أجل التحرر من كل التبعيات المذلة للهيمنة الأمريكية على منطقته.
لأجل هاتين الخاصيتين لكل من سورية ولبنان جاء القرار الغربي بعزل لبنان عن سورية، وهو قرارٌ لا يصب سوى في مصلحة أميركا وإسرائيل. وقد أثبتت الوقائع اليوم أنه يستحيل تنفيذه أو استمراره، فلبنان امتدادٌ طبيعيٌّ لسورية ولا يمكن فصله عنها وذلك بحكم الجغرافية وبحكم التاريخ وبحكم أواصر العلاقات الاجتماعية والبيئة الثقافية وبحكم المصالح السياسية والاقتصادية وكل تلك المساحات المشتركة والمتداخلة بينهما.
لقد أدرك اليوم من يملكون مفاصل القرار في لبنان أن عزل لبنان عن سورية يضرُّ بلبنان أكثر مما يضرُّ بسورية، لأن لبنان بلد يعتمد على الخدمات بينما سورية بلد منتج يستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي أو على الأقل تدبر أمره في حال تعرضه للحصار والتضييق، وكذلك يستطيع أن يمد لبنان بمستلزماته الأساسية لتجاوز أزمته الاقتصادية والمعيشية الخانقة، فإبقاء جسور التواصل والتعاون بينهما على كافة الأصعدة ضرورة لا بد منها للحفاظ على الأمن والاستقرار في كلا البلدين، وإن كان ذلك بعد ضوء أخضر من السفارة الأميركية ونتيجة لقرار سماحة السيد حسن نصر الله بإطلاق سفن كسر الحصار، إلا أنه يعدُّ خطوةً إيجابية.
لا تتوقف خصوصية لبنان في هذا السياق عند كونه بلدًا يعتمد على الخدمات بل باعتبار سورية الجار الوحيد له القادر على الانفتاح عليه والتعاون معه بما يخدم مصالحهما معًا، لأنِّ البديل الوحيد سيكون إسرائيل، فخيارات لبنان محدودة بين سورية أو إسرائيل.
بذلك نستطيع أن نفهم سبب الصراعات التي بدأت في لبنان منذ زمن وتفاقمت في هذه الأيام؛ فقد أرادت أن تجعل من لبنان شوكة في خاصرة سورية وتزجّ به لاتخاذ موقف العداء ضدها والسلام مع إسرائيل، وهذا لا يمكن أن يحصل أبدًا في ظل وجود المقاومة بفاعليتها ومؤثريتها، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال تحويل لبنان إلى حديقة خلفية لإسرائيل، ولن يكون موقف لبنان من سورية إلا موقف السلام والتعاون، ولن يكون موقفه من إسرائيل إلا موقف المعاداة والمقاومة.
رغم كل ما سبق، وبالإضافة إلى الاتفاق الأخير الذي بادرت إليه الحكومة اللبنانية كخطوة إيجابية في مسار التعاون وعودة العلاقات بين سورية ولبنان، إلا أننا لا نستطيع القول إن تلك الصراعات ستنتهي في الداخل اللبناني، بل سيستمر هذا الصراع وإن بوتيرة أقل نتيجة التركيبة السكانية في لبنان المنقسمة طائفيًا وحزبيًا وسياسيًا وارتباطاتها بمصالح ودول خارج لبنان كأميركا وفرنسا والسعودية وإسرائيل بشكل غير مباشر، والذي يجعل هذا الصراع ينحسر أكثر فأكثر هو أن تبقى سورية قوية وتؤدي دورًا مهمًا يوازي التدخلات الغربية بشأن المنطقة بما فيها لبنان لتكون بمصالحها المشتركة وبقوتها الإقليمية وتأثيرها السياسي الكبير بديلًا أفضل من تلك التدخلات الاستغلالية ذات المطامع الانتهازية والمصالح الأحادية. أما ما ينهي هذا الصراع وجوديًا وبشكل جذري وغيره من الصراعات الأخرى فهو استئصال الورم الخبيث المزروع بجسد وطننا والذي يسمى بإسرائيل.
أخيرًا، أؤكد على أن لبنان ليس جزيرة منعزلة في المتوسط على مقربةٍ من الضفة الغربية، بل هو أرض متصلة بكل هذا المشرق وليس من مصلحته لا السياسية ولا الاقتصادية أن ينصاع لما تريده له السفيرة الأمريكية شيا ليخرج من هذا التوجه وهذه الثقافة فيذهب إلى سرداب مهلكته.