بشيءٍ من الخَيبَة تابعتُ زيارَة وفد لبنان إلى سوريا مؤخراً بعد انقِطاعٍ أملتهُ على حكومَة لبنان أوامِر منزَلَة مِن إنجيل سياسي يَكاد يَكون سلطَة بابويَّة سياسيَّة تحكم المؤمنين بها في العالَم.
الدّولَة المعصومَة التي باتت أشبَه بالألباتروس. جناحاها أكبَر من بدَنِها وعاجِزة عَن التحليق. زيارَة لبنانيَّة هي في الواقِع مقدّمَة حتميَّة لِعزلِ من قاموا بها. لَو كانت الحكومة اللبنانيَّة مجموعَة من المترجِمين الأفغان الذينَ يتقِنون الإنكليزيَّة المكسَّرَة لكانَت الولايات المتّحِدَة تركتهم يسقطون من على إجنِحة طائراتها في مَطار كابول.
حكومة مفلوجة تزور دِمشق في أوَّل إرهاصات التخلّي عنها. آمرها يتحوّل عنها إلى مغازلة الخصم القوي. حكومَة أشرَف غَني. ولولا خصوصيَّة التّعايش الإلزامي في لبنان لكانَت بكل مكوّناتِها اليَوم في دبي أو في أي منفى إرادي.
السوريون كرماء والله. ما قيلَ فيهِم منذ العام 2005 لَم يقلهُ أي فطحل من فَطاحِل الهِجاء في العصر العبّاسي. مشاحَنات الفرزدق وجَرير أكثَر خَفَرًا ولطفًا مما قيلَ في سوريا وفي رئيسِها. لَم تنفَع كل مبادراتِها في تَقديم الأسرَّة وفتح البيوت أمام اللبنانيين في العام 2006 في كبحِ جَماحِ الهَجّائين طَمَعًا بفتات أجنَبي وحظوة لَدى جون بولتون وكونداليزا رايس وإليوت أبرامز.
انتظر الوَفد الوزاري انعطاف جو بايدن الإستراتيجي نحو مواجهة ماو الصيني وإعطائه الإذن بتليين القبضة على سوريا.
لا فضل للحكومة اللبنانية حتى بعَلَم على طاولة اجتماعات وزارة الخارجية بدمشق. تجنّبًا للالتباس: علم لبنان نحميه بالرموش ونرفعه أمام العالم لكنه يأنف من أن يُرفَع أمام موظّفين مأمورين فئة سادسة.
رئيس الدولة مسؤول أيضًا. كان الأجدى به افتتاح عهده بزيارة تاريخية إلى قصر المهاجرين، ولكن ما فات قد فات وما فات مات. زيارة مثوى القديس مارون في براد أوحَت بأن الرئيس العتيد آنذاك سيخطو الخطوة التاريخية. أغلب الظن أنه أراد كسب موارنة لبنان لا رضى القديس. خسرَ قسمًا كبيرًا من الموارنة لصالح الانعزال الماروني ولم يربح سوريا.
واقع حزين. ماذا تبقّى لنا بعد أن تذكّرنا متأخرين أواصر الجغرافيا على ما أفضى به وليد جنبلاط؟ لا شيء يُذكَر. الرئيس الأسَد تماهى مع الوفد الدرزي. طلال أرسلان مثّل ما تبقّى من ودّ لسوريا. لولا ذلك لكانت الزيارة الحكوميّة سياحة سياسيّة ولكانت زيارة سوق الحميدية أكثر نفعًا للزوار من الاجتماع الذي حصل.
في أزمنة الحصار تعمد الدول إلى فكّه عبر عقد تحالفات جديدة. اتفاقية الشّراكة أكلها الغبار في جوارير المجلس الأعلى اللبناني السوري. لم يبقَ منه سوى السيد نصري الذي أعطِيَ شَرف التحدث باسم الوفد اللبناني. عيب.
قبل استيلاد حكومة لبنانية لا تعادي سوريا ويتضمن بيانها الوزاري إشارة واضحة إلى طيّ صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة مع سوريا التي انتصرت على حرب مجرّة شُنَّت عليها عبثًا نرسِل وفودًا.
قيلَ في بداية الحرب على سوريا إنَّ الأسَد سيخرّ مضَرَّجًا في غضون أسبوعَين فإذا به يصمد عشر سنوات ليعاد انتخابه رئيسًا أقوى من رئاسته في بدايات حكمه. ليسَ خطأً في التقدير ما قيل. هو تكدّس لأحقاد تاريخيّة تأكل مطلقيها. هؤلاء معظمهم تحالفوا مع سوريا وأكلوا وشربوا على موائِدِها. عن فساد ممثليها في لبنان حدّث بلا حرج. علّمهم زعماؤنا فنّ الفساد وتقاسموا معهم لقمة عيشنا. الأجدى بهم محاكمة أنفسهم قبل محاكمة سوريا.
وفد صغير لا يملك حتى اختيار وجهة الطريق التي سلكها إلى جديدة يابوس. في الحقيقة، أميركا بعظمتها قادت الموكب المهيب وركنت السيارات في المرآب وجلست إلى طاولة الاستجداء. السياديون حديثو النعمة لا يستسيغون هذا الكلام. سيختبئون مجددًا حول جمل غير مفيدة في السيادة والحرية والاستقلال. لم يتعلّموا شيئًا لا من التاريخ ولا من الجغرافيا والأهم الأهم لم يراجعوا سجلات الدولة العظمى. كل ما عليهم فعله حفاظًا على ديمومتهم ألا يتعلّقوا بآخر طائرة عملاقة أقلعت من كابول. لا نريد لإخوتنا في المواطنية رغم الجراح البالغة التي سبّبوها أن يقفزوا من علوٍّ شاهِق كما فعل المترجِمون الأفغان منذ أيام قليلة.