كل ما يرد الينا بشكل متسارع هذه الايام من اخبار وتقارير حول التواجد الاميركي في غرب آسيا يشي بحقيقة واحدة لا تقبل الشك والترديد، الا وهي ان واشنطن هزمت عسكريًا هنا وانها بصدد اعادة تجميع قواتها للرحيل باتجاه الشرق الادنى لمواجهة ما تعتبره الخطر الاقوى والذي بات يهدد الامبراطورية الاميركية في الصميم.
ولنتذكر ما قاله الرئيس الصيني في ذكرى تأسيس الحزب الحاكم المئوية: “لقد ولّى عهد التنمر على الصين الى غير رجعة “. وهذا الاعلان من اهم زعيم صيني بعد ماوتسي تونغ الذي لطالما وصف الامبريالية الاميركية بأنها “نمر من ورق” اذا عنى شيئاً فإنه يعني ان اميركا اصيبت بالشيخوخة المبكرة، ولم تعد قادرة على لعب دور شرطي العالم.
من هنا يمكننا الاستنتاج أن واشنطن دخلت موسم الانسحاب من قواعدها العسكرية التي تربو على المائة قاعدة في العالم الى الداخل الاميركي وتركيز الصراع الخارجي في وجه الصين تحديداً وهو ما بدأه ترامب يوم رفع شعاره الشهير “اميركا اولاً”.
انسحاب الجيوش الاميركية من افغانستان الذي وقعه ترامب ونفذه بايدن هو الانسحاب التقهقري المذل عن قيادة العالم، والعودة الى ما قبل الهيمنة العسكرية الاميركية. وقد كان بايدن واضحاً في دفاعه عن الانسحاب المتسارع والمتخبط من كابول يوم قال: لم يعد بامكاننا البقاء اكثر ولم يعد مفيدًا لنا بذل المزيد من الدماء هناك. وهذا يعني انتقال واشنطن من العسكريتاريا الى الحروب البديلة، ليس في افغانستان وحدها وانما في كل بقاع العالم.
هذا الامر، حسب تقدير كل المحللين الاستراتيجيبن، سيستمر بقوة مرورًا بسورية والعراق واليمن وصولًا الى ترك حاميتهم المتقدمة الاكثر اهمية في تاريخهم الاستعماري المسماة “اسرائيل”، إذ سيأتي اليوم الذي سيضحون بها فيه لأنها ستكون قد باتت ثقلًا عليهم لا يطيقونه يستنزف اقتصادهم وروحهم.
ولكن ماذا يريدون من افغانستان الآن بعد هذه الهزيمة المرة؟
انهم يحاولون بتخبط وعمى استراتيجي واضح تحويل التهديد الى فرصة كما يلي:
١- تحويل البلاد الى ساحة صراع قلقة تمنع الصين من تحقيق مشروعها العملاق المعروف -حزام واحد طريق واحد- والذي يعتمد في انطلاقته من آسيا المركزية وافغانستان حلقة محورية فيه وكذلك باكستان.
٢- اختراق البيت الروسي بحروب “داعشية ” من خلال سياجه الامني الحيوي المعروف بدول منظمة التعاون الامني ( جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، اوزبكستان طاجيكستان، تركمنستان ، قرقيزيتان) وصولًا الى داخل الاتحاد الروسي ( الشيشان وداغستان و…).
٣- منع الهند من التواصل مع ضلعي القوة العالميبن الصاعدين اي الصين وروسيا، عبر إشغالها واغراقها بحرب النفوذ مع باكستان في افغانستان.
٤- نقل خطر القاعدة واخواتها الداعشية الى داخل باكستان ومنع هذا البلد الاسلامي من التحالف مع ايران وروسيا والصين لاهداف متعددة منها ضرب المشروع الصيني المذكور آنفاً ايضاً.
٥- محاولة ادخال ايران في تحدّ جديد عنوانه مواجهة دولة سنية اصولية “متشددة” على حدودها الشرقية ومحاولة اغراقها بحرب امنية استخباراتية وإن امكن عسكرية استنزافية اشبه بالحرب العراقية الايرانية لاخراجها من فلسطين وسورية ولبنان وبالتالي اخماد شعلة الفصل الاخير من الهجوم الاستراتيجي الذي يعد له محور المقاومة منذ سنوات لتحرير فلسطين.
٦- تتويج كل هذه الاهداف بالنجاح دون اي تكلفة مباشرة على الاقتصاد الاميركي، ودون جيوش اميركية، لا يتحقق حسب المخطط الاميركي الا بالدفع بقوة باتجاه حرب اهلية افغانية تؤدي الى تقسيم افغانستان الى امارات عرقية قومية مذهبية اولاها بدأت بامارة طالبان الپشتونية (انظروا الى اعلان الحكومة الطالبانية المؤقتة).
فالذي يعرف افغانستان جيدًا تاريخًا وجغرافيا وموقعًا يعرف تمامًا ان البلاد لا يمكن ان تحكم بقبيلة الپشتون وتبقى مستقرة.
والغربي عمومًا والاميركي خصوصًا يعرف هذا تمامًا، لذلك قام وبشكل واضح ومريب بافشال محادثات الدوحة بين الافغان، وبالمقابل نجح في التفاهم مع الطالبان الپشتونية وبمساعدة من حكومة اشرف غني الكارتونية العميلة التابعة له على تسليم البلاد مؤقتاً بعاصمتها كابول للطالبان، وترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لصراع اثني قبلي مذهبي اقليمي مفتوح حول مستقبل افغانستان، تاركًا عدة الشغل في هذه المهمة القذرة لادواته الصغيرة: قطر والامارات وسائر كيانات النفط والغاز،
فيما هو ذاهب الى بحر الصين لمواجهة المارد والتنين الذي بات يمسك بتلابيب الامبراطورية الاميركية المتهافتة.
وحده الايراني الفطن والمتنبه جيداً ، و”المفتح” ٢٤ على ٢٤ يعتبَر القارئ الجيد لما يحاوله الاميركي المنهزم والمهشم والمكسور، وبالمقابل القادر على تحويل التهديد الى فرصة.
لقد نجح الايراني حتى الآن في تعطيل ١٠ قواعد اميركية كانت تشاغب عليه من حدوده الشرقية، وهو بصدد تعطيلها قريبًا على حدوده الغربية، ومن ثم سيسعى مع “اكابر” العالم الجديد عبر منتدى شانغهاي لنقل مركز السلطة العالمية اي مركز ثقل العالم من الغرب الى الشرق، تاركًا واشنطن غارقة في وحل احلامها خائفة تترقب من أين ستأتيها البطشة الكبرى.