سلسلة من التقارير تتوالى في قراءة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي اللبنانيين ومآلات الخروج منهما مع التقديرات الزمنية لذلك؛ فوصف تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني لخريف 2020 الصادر عن البنك الدولي الازمة الاقتصادية التي يتعرض لها لبنان بـ”الكساد المتعمد” في اشارة مباشرة الى تحميل السلطات اللبنانية مسؤولية الازمة بسبب تعمدها انتهاج سياسات غير ملائمة انتجها” الاجماع السياسي عن نظام اقتصادي مفلس” بحسب المرصد.
وفي تقرير المرصد نفسه لربيع 2021 الصادر في 31 أيار الماضي، تحت عنوان: لبنان يغرق.. نحو اسوأ ثلاث أزمات عالمية، اعتُبرت الأزمة الاقتصادية والمالية التي تضرب لبنان من بين الازمات العشر، وربما من بين الازمات الثلاث، الاكثر حدة عالميا منذ أواسط القرن التاسع عشر، منذرا بذلك من الأثر الاجتماعي الذي يتهدد اكثر من نصف السكان للنزول الى ما دون خط الفقر الوطني.
واشار التقرير الى تفاعل الاسواق اللبنانية وسوق الصرف على شكل تقلبات كبيرة في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، اضافة الى واقع اسعار الصرف المتعددة، لينعكس ذلك على الاسعار مما أدى الى زيادة التضخم ليبلغ 84% في العام 2020.
اجتماعيًا، كان قد سلط التقرير الضوء على محركين اقتصاديين أساسيين يمكن أن يشكلا تحديات اجتماعية وسياسية؛ المحرك الأول يركز على الضرر الذي تلحقه استمرارية دعم الصرف الأجنبي حيث يشكل من جهة ضغطًا على ميزان المدفوعات، ويحول دون زيادة اسعار الواردات الاساسية والمهمة مما يحد من قدرة شراء اللبناني بسبب التضخم وانخفاض قيمة الليرة.
المحرك الثاني ركز على خدمات الكهرباء، المياه، الصرف الصحي والتعليم، حيث أدت السياسات المعتمدة الى اضعاف وانهاك الخدمات العامة الضعيفة في الاصل مما ينعكس تاليًا على معدلات الفقر ويتهدد الصحة العامة وينذر بهشاشة التعليم.
في الثالث من هذا الشهر، وتحت عنوان: “الفقر المتعدد الابعاد في لبنان، واقع اليم وآفاق مبهمة”، خلصت لجنة الامم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، الاسكوا، الى ان نسبة الفقر المتعدد الابعاد في لبنان تضاعفت من 42% في عام 2019 الى 82% من مجموع السكان عام 2021، وبلغ عدد السكان الذين يعانون هذا الفقر اربعة ملايين نسمة تقريبا وهم يمثلون نحو مليون اسرة.
نسبة كبار السن الذين يعانون من الفقر المتعدد الابعاد في عام 2021 تبلغ 78%، ونسبة شبه متساوية بين الرجال والنساء تتراوح بين 80% للاسر المعالة من رجال و81% للمعالة من نساء.
الفقر المتعدد الابعاد لا يقاس من خلال مستوى الدخل، بل بدليل الفقر المتعدد الابعاد الذي يأخذ بالحسبان اوجهًا متعددة ويتألف من ستة ابعاد ينطوي كل منها على عدة مؤشرات تبلغ جميعها عشرين مؤشرًا.
الابعاد الستة هي: التعليم، الصحة، الخدمات العامة، المسكن، الاصول والممتلكات وبُعد العمل والدخل. وتصنف الاسرة بأنها في فقر متعدد الابعاد اذا حرمت من بعد واحد او اكثر، وتصنف في فقر مدقع متعدد الابعاد اذا حرمت من بعدين او اكثر. هذا الاخير بلغت نسبته في لبنان بحسب اللجنة، 34% من مجموع السكان في عام 2021، اي ما يعادل 40% من مجموع فقراء لبنان الذي بلغ 82%، وارتفع عدد السكان الذين يعانون من الفقر المدقع الى 1,650,00 نسمة اي ما يوازي 400,000 اسرة لبنانية.
أرقام وابعاد يقف حيالها الشباب اللبناني عاطلًا عن العمل، ويتأهب المسنّ لموته مرضًا او حسرة، والاهل ينعون سنوات تعليم اطفالهم ويشهدون على شهادات لا لزوم لها.
ارهاصات كان يواكبها القاصي والداني من اهل القرار والسلطة، وخلاصات كارثية كان البنك الدولي وصندوق النقد شريكين اساسيين في رسم وهندسة السياسات المالية الخاصة بها طوال العقود الماضية، ومولا الحكومات المتعاقبة التي قادت الانهيار وسياسات الافقار، وتوصيات واقتراحات كثيرة ترشح من مصادر عدة، ما عدا اهل الوصاية. فلا سياسات اصلاحية يتبناها اي طرف سياسي، ولا برامج انقاذية تنظر للازمة بعين الضرورة واللزوم، باستثناء الخرق الذي احدثه حزب الله في استقدام بواخر المحروقات من ايران.
صدور تقرير “الفقر” المأساوي عن الاسكوا تزامن مع افراج الولايات المتحدة الاميركية عن معتقلينا السياسيين؛ فبمواكبة أمنية بصورة العجلة توجه الوفد الوزاري الى صالونات دمشق لاستجرار ما يسمح به من بعدَي الطاقة والنفط، أفقرنا قياصرة الفساد وجودهما، وصاغ الاميركي لحرماننا والسوري منهما قانونًا. ربما هي حصة يأمل ان ينالها لبنان مستقبلًا من توازنات دولية واقليمية، او مشيئة اميركية لاحياء رميم النظام اللبناني، او امر واقع فرضه تمرد الحزب العاق لاميركا، وفي لبس التأويلات يبقى الفقير يئن ما يشاء والقيصر يفعل ما يشاء.