ويبقى عليٌّ (عليه السلام) لا ينازعُ في شيءٍ، لا في سابقة إسلام ولا في سابقة جهادٍ أو علمٍ أو ورعٍ أو تقوى. لكن من الصفاتِ المحيّرة في شخصه شرف الخصومة؛ فقد كان فوق أخلاقيات الفرسان عندما ينتصر على أعدائه، فتراه في انتصاراته باكيًا مطرقًا لا ينظر في وجوه أعدائه المهزومين، حتى سمّاه بعض الكتاب “المنتصر الباكي”، لأنّ عليًا(ع) إنّما قتالُهُ وخصومتُه لله جلّ وعلا.
وهنا تكمن عظمة علي (ع)؛ لأنّك لا تجدُ فيهِ حقدًا أو تشفيًا أو عصبية ذاتية؛ فجهادُهُ، وخصومتُهُ، ومعاناتُهُ كُلُّها للهِ وحدَهُ.
من شرفِ خصومتِهِ كلامه في طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وهما ممّن بايعَهُ (ع)، لكنهما غدرا ونقضا بيعتهما، وعملا على إخراج السيدة عائشة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله) وكانا من أكبر أسباب الخروج على أمير المؤمنين(ع)، ووقوع معركة الجمل التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين (25ألفًا) من المعسكرين.
فماذا قال عنهما بعد أن قُتلا لنفهم معنى شرف الخصومة وأخلاقيات المنتصر الباكي؟
1 – جاء الإمام (ع) ومعه أصحابُهُ إلى طلحة بن عبيد الله وهو ملقى بين القتلى، فقال لأصحابهِ أجلسوه. فلما أجلسوه، قال يُحّدِثُهُ: (أعززْ عليّ أبا محمدٍ أن أراك مُعفّرًا تحت نجومِ السماءِ، وفي بطن هذا الوادي بعد جهادِكَ في اللهِ، وذبِّكَ عن رسول الله (صلّى اللهُ عليه وآله).
٢- أمّا الزبير فذُكِرَ أنه بعد أنْ حاورَهُ الإمام (ع) قبل بدءِ معركةِ الجملِ تأثّر بكلام الإمام (ع)، وندمَ، واعتزلَ القتالَ، فانصرف عن العسكرِ، فنزلَ بوادي السباع والتقى برجلٍ يقالُ لهُ عبد الله بن جرموز وتعارفا وقدم ابن جرموز الطعام للزبير، فلما قام الزبير يصلى غدرَهُ ابن جرموز فقتله، وجاء بسيفِه ورأسهِ إلى علي (ع) فأخذ الإمام (ع) سيف الزبير وظلّ يقلبُهُ وقال: هذا سيفٌ والله لطالما فرّجَ الكربَ عن رسول الله (ص) ثمَّ قال: بشروا قاتلَ ابن صفية بالنار.
شرفُ الخصومةِ أن تكون منتصرًا على أنانيتك وحقدك قبل أن تنتصر على عدوك وخصمك فتجعلَ خصومتك في الله، فلا تتشفى بهزيمة عدوّك، أو موت خصمك، ولا تبخسهُ محامدَهُ وفضائلَهُ.
إن استطعتْ أنْ تتحلى بهذهِ الروحية فأنت تفهم معنى الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآلهِ)، وحقّ لك أن تنتسبَ لدرب ومنهج “المنتصر البكّاء” علي بن أبي طالب (ع).
ورد في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (ع):
“وَسَدِّدْنِي لأنْ أعَـارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْـحِ، وَأَجْـزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِئَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وأُخَـالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكرَ الْحَسَنَةَ وَاُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَـةِ. أللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ
الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ”.
واللهُ من وراءِ القصد.