فوضى محطات الوقود: غالونات ومحسوبيات والأفضلية لمن يدفع أكثر

أكتب قطعتي هذه، وأنا على طابور البنزين، فالانتظار هنا يكفي لانهاء اطروحة دكتوراه، لا مقالةٍ فحسب، كما انّ الطابور ومن وما فيه، بات مصدر الهام!

لكن، وعلى هذه المحطة، كما معظم المحطات الاخرى، يحصد اللبناني كل يومٍ دكتوراه جديدة في فنّ “الحربقة”، والحربوق في معاجم اللغة، يعني ذاك الذي يُحربِقُ عملَه، أيّ يُفسده، إلّا في حالة النموذج اللبناني، الحربوق يفسد عمل من حوله، ويفسد اخلاق مجتمعه، حتى يحصل في النهاية على ما يريد. والنسخة الجديدة للحربقة على محطات البنزين، وصلت الى حد الفلتان والفوضى.

شخصية “راجح” الخيالية من مسرحية بياع الخواتم للاخوين الرحباني لم تأتِ من العدم، هو الشخص الذي نستطيع ان نلصق به كل تهمة، وسيكون راجح في مقالتي هذه هو شخصية اللبناني الحربوق، التي سنستعين بها، لنفهم اكثر ماذا يحصل على محطات الوقود.

قبل اشهر، كان راجح ينتظر دوره على المحطة لساعة ونص او ساعتين، قبل ان تشتد الازمة! الى أن تخطت مدة الانتظار الساعات الست في الفترة القصيرة الماضية، فصار راجح اكبر شأنًا من الطابور، اذ اكتشف أن المسؤول عن المحطة “حربوق” ايضاً، وليس من العدل، بحسب مفهومه، ان تمر هذه الازمة من دون ان يستفيد منها! لذا افرز صاحب المحطة الحربوق طابورًا خلفيًا لكل راجحٍ بيننا، ووصلت الرشاوى بحسب شهادات المواطنين لموقع الناشر الى ٣٠٠ الف ليرة، عن كل “تفويلة”.

طبعاً راجح، لا مشكلة لديه ان يدفع الـ٣٠٠ الف ليرة، ويدعس على الناس ويتخطى طابور الانتظار الطويل، وينهي مهمته بخمس دقائق ويغادر المحطة، فيما المنتظرون في الطابور لن يحصلوا على التفويلة، فبحجة الضغط على المحطة، يكتفي صاحبها بملء صفيحة بنزين واحدة او اقل احيانًا في كل سيارة لا “راجح” فيها.

الى ذلك، كان “راجح” نفسه قبل ايامٍ، لا يمانع ان يدفع الـ٣٠٠ الف ليرة نفسها ثمن غالون بنزين سعة ٩ ليترات!

لن نفعل فعلة المختار (نصري شمس الدين) في مسرحية الرحابنة، فنرمي كل شيء على راجح، لأن الحربوق صاحب المحطة لا يكتفي برشوة الـ٣٠٠ الف ليرة كربحٍ اضافي في تجارة الازمة، فوفق شهادات الناس، يقوم صاحب المحطة بملء غالونات سعة ٩ ليترات للبعض بسعر مضاعف عن السعر الرسمي (الذي يعادل الان حوالي الـ٧٠ الف ليرة)، وهو يعرف ان تلك الغالونات ستباع في السوق السوداء بـ٣٠٠ الف و ٤٠٠ الف وربما اكثر!

على هامش ما يفعله كل من راجح واصحاب المحطات، القوى الامنية الموجودة على اغلب المحطات تمارس الحربقة ايضًا، ففي حادثةٍ يرويها احد ابناء بلدة بقاعية، داهمت قوة مشتركة من الجيش ومخابرات الجيش وامن الدولة محطة وقود عمدت الى تخزين ١٥٠ الف ليتر من البنزين، وقبل ان تفرض على صاحب المحطة بيعها للناس، تعارك عناصرها كلاميًا فيما بينهم، على خلفية تقاسم بعض الكميات، والحادثة وثقتها مخابرات الجيش بكاميراتها.

على محطة أخرى، يطبخ عناصر امن الدولة الطبخة مع صاحب المحطة، فيطلب من المنتظرين على الطابور مغادرته بحجة ان مخزون البنزين نفد، فيما تبدأُ المحسوبيات بعد مغادرة الجميع، فتصبح التعبئة استنسابية للاقارب والاصحاب والزملاء والرفاق.

ماذا لو التزم راجح بالطابور ورفض دفع الرشوة؟ ماذا لو وزّع صاحب المحطة كل مخزونه على الناس دون ان يعمد الى تخزينه او توزيعه باستنسابية؟ ماذا لو رفض ملء الغالونات الى متسولي السوق السوداء؟ ماذا لو حرصت القوى الامنية على حسن سير الامور على المحطة؟ الاكيد ان الطوابير ما كانت لتختفي لأن الازمة في الاساس ليست هنا، لكن الاكيد ايضًا ان المحطات ما كانت لتشهد كل هذا الفلتان والفوضى.

اساسيلبنانمحطات البنزين