صفحات من التغلغل الأمني التركي في لبنان (1/3)

يروي الكاتب والدبلوماسي التركي الراحل أورهان قولوغلو أنه حين انتقل للعمل في سفارة بلاده في بيروت، بين عامي 1970 و1971، جرى تقديمه إلى أحد زملاء العمل، الكاتب الثاني محمد علي. ولكن لفت نظره أمران: عمر هذا الموظف الأربعيني لا يتناسب مع مسمى كاتب ثان، بل يجب أن يكون في منصب أعلى، والأهم هو أنه لا توجد على طاولة هذا الكاتب أية أداة كتابة.

وفي إحدى المناسبات أتى موظف جديد إلى السفارة فتعرف على الكاتب الثاني المزعوم، وقد كان زميله في عاصمة أخرى، ولكنه ناداه باسم مختلف. سرعان ما أوضح «محمد علي» اللبس، وقال إنه «مكلف بمهمة خاصة». تبين لاحقًا أن الموظف والمترجم السوري الأصل في المكتب الإعلامي في السفارة، والملقب بـ«الدوماني»، يعمل تحت إمرة «محمد علي» في مهمته الخاصة. وقد لقي مصرعه لاحقًا في سنوات الحرب الأهلية، وتبين أن له صلات مع عدة أجهزة استخباراتية ومنظمات مختلفة.

يوضح قوروغلو أنه علم أن زميله ليس إلا أسطورة الدولة العميقة، ورجل المهمات القذرة في الاستخبارات الوطنية MİT، هيرام عباس، الذي أصبح الرأي العام في تركيا يعرفه لاحقًا بلقب «السيد بايب». وقد صدر كتاب عنه باسم «الحياة الاستثنائية للسيد بايب»، وفيه معلومات قيمة عن بدء نشاطات الأمن التركي في الأراضي اللبنانية. يقول مؤلفا الكتاب إن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي «أمان» طور خطة للتعاون مع تركيا في كل من لبنان وسورية، بمقتضى استراتيجية تعقب الأعداء وضربهم outflank. وقد تدخلت الولايات المتحدة بنفوذها لدى أنقرة للموافقة على الانخراط في الخطة، والتي امتدت كذلك إلى كل من إيران (قبل الثورة) وأثيوبيا. ولتعزيز ذلك عُيّن مسؤول دائرة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية إلياهو ساسون سفيرًا في تركيا، عام 1957، والتقى بكبار المسؤولين لترتيب التعاون الأمني. وكان على رأس من اجتمع به رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس. يقول الكتاب: «قام ساسون، ونزولًا عند إصرار الطرف التركي، بإبقاء التنسيق الأمني سريًا، بعقد جملة اجتماعات سريعة مع مسؤولي وزارة الخارجية، وقام بنسج التداخل بين البلدين قطبة قطبة».

توجت جهود ساسون بتنظيم أول اجتماع لرئيسي الاستخبارات في كل من تركيا وكيان الاحتلال، عام 1958. قبلت تركيا بالتعاون، وبدأت الخطوات التنفيذية، فأُعلن بعيد ذلك عن تعرض طائرة إسرائيلية لعطل مفاجئ واضطرارها للنزول في أنقرة. غير أنها، في الحقيقة، لم تكن معطلة، بل كانت تحمل وفدًا رفيع المستوى أجرى لقاءات معينة لتقرير الخطوات التنفيذية للخطة، التي وضعت لها كلمة سر: فكتوريا.

أولى هذه الخطوات كانت انطلاق طائرات من القاعدة الجوية الثانية عشرة، من منطقة أتيمسغوت قرب أنقرة، محملة بصناديق مغلقة جيدًا. وقيل إن وزير الخارجية فاتن رشدي زولو قد أشرف شخصيًا على ملء وتحميل هذه الصناديق. وكانت الطائرات تسلك يومها المجال الجوي لقبرص، التي كانت آنذاك تحت الوصاية الإنكليزية. وعندما كانت الطائرات الإنكليزية، في قبرص، تحلق لمواجهة هذا القادم المجهول كانت تعود أدراجها عندما تسمع في الراديو كلمة السر: فكتوريا. وبعدها كان الأتراك يحطون في مطار بيروت. ينقل الكتاب عن أحد هؤلاء الطيارين قوله إنه في إحدى المرات لم يتمكن من التغلب على فضوله، ففتح أحد الصناديق، ووجد أسلحة فردية وقذائف مدفعية، والكثير من الذخيرة. ويضيف أنه سافر وحده إلى بيروت خمس مرات. أحد الجوانب، التي لم نكن نعرفها، أن الحركة الوطنية اللبنانية تمكنت لاحقًا من بسط سيطرتها على المطار واعتقال اثنين من الطيارين الأتراك، وبقيا في الأسر حتى نهاية الحرب الأهلية. إذًا، جاء هيرام عباس ليتابع مسيرة هذه الخطة.

كان عباس قبل توليه مهامه في بيروت موجودًا في أثينا، وقبلها في مدينة باطومي الجورجية. ولكنه شعر أنه بات معروفًا في تلك المناطق، فعاد إلى المركز ليعرض عليه رئيس الاستخبارات أن يذهب إلى باريس أو بيروت، فاختار الأخيرة. وعن ذلك تقول زوجته غولسون عباس إن «أيام بيروت كانت أسعد أيام حياتنا»، وتمضي في الحديث عن تجوالها مع أولادها في شارع الحمرا، وعن جلوسها كثيرًا في فندق الكومودور. وكان لمنطقة رأس بيروت نصيب وافر من حديثها المتحمس. وارتبطت عائلة عباس بعلاقات صداقة مع عائلة تمرز، ذات الأصول السورية الآشورية. استخدم روجيه تمرز، بعد ذلك بسنوات طويلة، وفي 1995 بالضبط، علاقاته مع المؤسسة الأمنية التركية من أجل اللقاء مع اثنين من قادة العهد: زعيم «حزب الحركة القومية» الفاشي ألب أرسلان توركيش، وزعيمة «حزب الطريق القويم» تانسو تشيللر. لقد كان يطمح إلى الحصول على عقد مد خط النفط من باكو الآذربيجانية إلى مرفأ جيهان التركي.

اساسيتركيالبنان