عبقرية المقاومة تكمن في ايمانها الراسخ وجديتها البالغة في الرصد والتمحيص للتاريخ ولشواهد الحاضر، وهو ما يوفر لها فضيلتين كبيرتين، الاولى: تتمثل في قراءة دقيقة للواقع وتوازناته ومحاذيره وفرصه المتاحة، والثانية: توقعات دقيقة للمستقبل وملامحه واستشراف يكاد يطابق الواقع المستقبلي، وهو ما دللت عليه الحوادث السابقة وهو ما يعطي دومًا الامل والثقة بخيارات المقاومة واسلوبها في التعاطي مع الاحداث.
الشاهد هنا هو ان محور المقاومة يمتلك بالفعل خطوات متقدمة تحليلية واستشرافية تسبق كثيرًا من المتابعين بمن فيهم المتخصصون، وهو ما يشكل فجوة في تقييم خطوات المقاومة، بين توهمٍ للمغامرة والمجازفة من قبل بعض الراصدين، وبين خطوات طبيعية ولازمة من قبل متخذي القرار في محور المقاومة.
ومن مصاديق ذلك، هو ان الكثيرين لا يزالون يتعاطون مع الأحداث والصراعات بقوانين حكمت مرحلة سابقة، دون انتباه لتحديثات وتغيرات هذه القوانين، فالبعض لا يزال يتعاطى مع اميركا باعتبارها قوة عظمى وحيدة ويفسر كل خطواتها التي تعكس هزيمة حقيقية، على انها مناورة أو التفافة، فيفسرون خروجها المخزي من افغانستان باعتباره مقصودًا لتنفيذ اجندة جديدة، او يعتبرون تفجيرات داعش باعتبارها اوامر اميركية، في حين ان الخيبة ظاهرة وليست بحاجة لتحليل، وأن تمرد داعش بما يشبه أعمالًا انتقامية من اميركا لتركها افغانستان دون تمكينها، هو الاقرب للذهن!
الا ان التفسير هنا للذهاب لهكذا تحليلات هو عدم القدرة على استيعاب حقيقة هزيمة المشروع الاميركي في المنطقة بفضل صمود المقاومة، ولتناقضه مع ارادة الشعوب، ولتراجع حجم القوة الاميركية اقتصاديًا وعسكريًا، بما لا يسمح لها بالتمدد الامبراطوري، وبما يجبرها على الانكماش والتركيز على اولوياتها الضاغطة والتي تسعى معها جاهدة كي تبقى قوة عظمى حتى وإن كانت غير وحيدة.
اميركا تجاهد كي تصبح احد اقطاب العالم الجديد، ولم تعد تمتلك قوة الدفاع عن عرشها كقطب وحيد في عالم احادي القطبية.وبالمقابل، نرى ايضًا بعض التحليلات المتسرعة والتي تقول ان اميركا انهارت وانها انتهت كقوة عظمى، وهو ما لا دلائل ولا مؤشرات عملية او علمية عليه بعد.
فمؤشرات الهيمنة الاقتصادية والمتمثلة بسيطرة العملة، لا زالت تقول ان الدولار هو العملة المهيمنة دوليًا، كما ان معايير الثقافة والديمقراطية الاميركية، ايًّا كان موقفنا منها، لا زالت تحكم وتتحكم في العقول والقوانين، ناهيك عن القوة العسكرية الكبيرة والسيطرة على مجالات تكنولوجية وقوة نووية ضخمة.
كي نصل لمقاربة دقيقة، نرى ان ما يطلق عليه “العصر الاميركي”، هو الذي يشرف على الانهيار، وأن التواجد الاميركي بالمنطقة بشكله التقليدي الذي حكم القرن الماضي يوشك على الانتهاء، بينما يتطلب انهيار الامبراطورية الاميركية بعضًا من الوقت، ولعل اسبابه المباشرة ستكون لعوامل داخلية تكمن في فساد الشركة الاميركية الكبرى المسماة بـ”الولايات المتحدة الأميركية”.
وما نستطيع أن نقوله إن صمود محور المقاومة هو السبب الرئيسي والمباشر في هزيمة المشروع الاميركي بالمنطقة، والذي كانت احدث تجلياته بروز التناقضات بين اميركا وربيبتها “اسرائيل”، وتصريحات اميركا العلنية برفض التصعيد الاسرائيلي، والاعلان عبر عدة منابر متفاوتة ان اميركا لن تقاتل نيابة عن احد.
ما يتطلبه الوضع الراهن لفهم دقيق وتحليلات واستنتاجات صائبة، هو فهم ورصد الحجم الحقيقي والموضوعي للتوازنات الجديدة، والفصل بين التواجد الامبراطوري لاميركا وبين كونها قوة عظمى، وكذلك قراءة تبعات الانسحاب الامبراطوري وتأثيراتها على حلفاء اميركا وتابعيها وذيولها.
ان الخطر الاكبر المهدد للمنطقة حاليًا، هو الحقد الموروث على المقاومة من قبل المحبطين من الانسحاب والهزيمة الاميركية، وكذلك في خيارات شمشونية للعدو الصهيوني.
والخبر السار ان المقاومة اعدت القوة لمجابهة الحماقة، وأعدت البصيرة لمواجهة الاحقاد.