كان على سعد الدين رفيق الحريري أن ينتظر الصباح ليردّ على سيّد الصدق وحامي السيادة والبلاد، لعلّ في الصباح تكون أعصابه أقلّ توتّرًا فيستطيع أن يصوغ كلماته بأدب يحفظ جميل من ردّوه من غياهب الريتز سالمًا، إلّا أنّه على ما يبدو تعذّر عليه التنتظار، أولًا لأن كما يقال في قرانا الصادقة “قيده مش ب إيده” فلا يحق له اختيار توقيت كلامه، ولا يترك له كاتب الورقة-التعليمة جاهزة عناء اختيار الوقت، بل تأتي مرفقة بتوقيتها، وأحيانًا بالانفعالات التي يريد منه المشغّل أن يظهرها (كاستقالته الشهيرة من الرياض)، وثانيًا لأنه بحسب مقرّبين منه لا يستطيع أن يصحو قبل الظهيرة إذ ينهكه في الليل سهر التفكّر في شؤون البلاد وأحوال العباد.
في تغريدته الليلية بالأمس، اختار سعد أن يلعب دورًا لا يجرؤ عادة على لعبه عاقل ذكيّ، وهي مسألة لا يبرّر سوءها الإجبار ولا يمكن البحث عن أعذار لها في ارتباطاته التي تخيفه من ناحية السعودية. لقد ضُبط سعد الحريري بالأمس متلبّسًا بجريمتين معنويتين: إحداهما المجاهرة بالسطحية المعيبة بحقّ جمهوره وبحقّ كل من “يقبضه” زعيمًا، وثانيًا الاستعجال في تلبية الأوامر العوكرية دون ادنى اعتبار لصورته أو ما بقي منها بعد أن هشّمتها الفضائح وأبهت لونها الفشل المتكرّر.
لم يخجل سعد من رمي فشله على الآخرين، حتى ذلك الفشل المشهود المعروف الأسباب والظروف والذي لم يكن من الممكن ستره؛ ففي حين يعرف كلّ سكّان كوكب الأرض، حتى عبيد السعودية في لبنان والمهجر، أن عجزه عن التشكيل كان قرارًا سعوديًا لم يتجرّأ على تخطّيه، يأتي إلى منصّة تويتر كي يخبرنا مفترضًا أنّنا المريخيون الذين ليس لديهم أدنى اطلاع على ملف عجزه التشكيلي، أن التعطيل صناعة ايرانية. يتخطى الأمر الاستخفاف بعقول الناس، ويتعداه إلى المجاهرة بخفة العقل التي تتيح لصاحبها أن يظنّ أنّه يستغبي الناس، ولا يجد في نهاية الأمر إلّا نظرات تتجه نحوه وتحتار بين ضحكة الاستهزاء أو ابتسامة الإشفاق، حتى من أهله وناسه.
لم يكتفِ الحريري الابن بارتكابه الشنيع أخلاقيًا وسياسيًا عبر اتهام حزب الله وايران بالتعطيل، بل انتقل إلى فقرة “المضحك المبكي”.
في فقرة “المضحك المبكي”، لم يجرؤ على تسمية السيّد نصر الله بالاسم، فقال: هناك من يريدنا أن نصدق أن النظام السوري يطالبنا بوقف التهريب لأنّه يضرّ بخطته الاقتصادية ولأن التهريب حرام والمهرب خائن للامانة.
لقد ضحك سعد وبكى حول موضوع التهريب، سواء لناحية ضرره على الاقتصاد السوري، أو لناحية حرمته، أو لناحية كونه عملًا لا يرتكبه إلّا خائن للأمانة. لقد ضحك وبكى سعد حول فكرة التهريب فيما ربيبه المرعبي ضُبط قبل أيام كمسؤول معنويّ على الأقل عن تخزين واحتكار لمادة البنزين التي انفجرت بقاياها وأدّت إلى وقوع مجزرة حقيقية راح ضحيتها فقراء عكار وجوارها، وفيما بعض الجهات مستقبلية الهوى تعتاش على التهريب والمضبوطات نُشرت في وسائل الإعلام ومنصات التواصل دون أن تستدعي لفظة استنكار وادانة واحدة من جانب ذي الخرزة الزرقاء.
من الطبيعي أن لا يفهم ابن بيت الوسط المنهوب طبيعة الضرر الاقتصادي الذي يلحقه التهريب بالدول القوية والمحترمة، وبالتالي لن يكون من المجدي أن يأتي أحد مستشاريه في الشؤون الاقتصادية ليشرح له ماهيّة الضّرر وأسبابه. وفي موضوع حرمة التهريب، أيضًا، فلن يفهمها من لم يفهم حرمة الارتهان لهاتف عوكر ولا حرمة التذلّل في خيمة البخاري. وكذلك بالنسبة للسوء الأخلاقي المرتبط بالتهريب والذي يجعل من المهرّب خائنًا للأمانة، فمَن خان كلّ ما أؤتمن عليه، يصعب عليه حتمًا فهم فكرة بسيطة عن ناس أطهار يتبعون سلّمًا قيميًا عاليًا يحرّم التهريب ويجرّم المهرّبين.
أمّا حين انتقل إلى فقرة “ضع عبارة (تحوّلات خارجية)” في جملة مفيدة، فقد نسي التلميذ غير النجيب أنّ الجملة المفيدة هي جملة تامّة ذات معنى، أو تناسى ليخبرنا أنّه مطلع بدوره على ما يدور في أفغانستان، مع الشكّ المشروع إذا ما كان يعلم أصلًا موقع أفغانستان على الخارطة.
أما حول قوله “قرع طبول الرهان على تحولات خارجية”، فقد سقط بلاغيًا في استعارة لغوية غير موفقة؛ فطبول الرهان على تحوّلات خارجية لم تقرع إلا في أذنيه يوم توسّطت له شمطاوتا الديبلوماسية، سفيرتا الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا عند ابن سلمانه وعادتا له بخيبة تضاف إلى سجل خيباته المزدحم.
كانت تغريدة سعد بالأمس صورة واضحة عنه، عن ارتهانه السّافر للخارج وتحوّلاته، عن تفوّهه بما لا يفهمه، عن تعاطيه السطحي حتى في الأمور الأكثر عمقًا، عن التزامه بتلبية التعليمات ولو على حساب صورته الهشة كزعيم ورث الزعامة مع الشركات، وخسر الاثنتين بنفس الزخم.
قليل من الذكاء، بل قليل من القدرة على التذاكي، كان سيكفي لكي لا يتصدّى سعد لكلام الصادقين بهذا القدر من اللاصدق، لا في الوقائع ولا في الخلفيات. عمليًا، لقد دخل سعد بالأمس حيّزًا لا يدخله الأذكياء، لنقل، ارتكب تغريدة يليق بها عنوان “حيث لا يجرؤ الأذكياء” مرفقًا بخرزة زرقاء، كي لا تصيبه عين حسود فيصحو.