صادم. مرير. فاجع. مدعاة للذهول. هذه بعض ألفاظ رددها الساسة الغربيون كما الإعلام الغربي وبعض العربي، في وصف الأحداث التي جرت يوم الخامس عشر من آب/أغسطس في أفغانستان، وخصوصاً السيطرة السريعة لمقاتلي حركة طالبان على العاصمة كابل. والحقيقة أنّني أستطيع الادّعاء بيقين، أنّ الأمر كان متوقعاً ولم يحد عن سياقه إطلاقاً، وحين توقعت الاستخبارات الأمريكية أن تحتاج حركة طالبان لمدة شهرٍ لعزل العاصمة وثلاثة أشهر لدخولها، كان الأمر مجرد محاولة للتغطية على الفشل، وكنت من القائلين إنّه بمجرد الانسحاب الأميركي، لن يحتاج الأمر سوى لظهور مقاتلين من طالبان في أي ولاية أو مدينة أو قرية، لإعلان السيطرة عليها. والشيء الوحيد الذي بدا نافرًا وخارج السياق، هو السيطرة على أفغانستان قبل الموعد النهائي على جدول الانسحاب، وهو 31/8/2021، أمّا دون ذلك فهي مبالغات سياسية وإعلامية غربية، للتنصل من المسؤولية، وتحميل الجيش الأفغاني والحكومة الأفغانية كامل المسؤولية، رغم أنّهما مجرد أدوات أمريكية غربية تُركت بلا بطاريات، وبالتالي فإنّ توقفها عن العمل هو الطبيعي لا العكس.
حين تقوم قوة الاحتلال بإنشاء مؤسسات عسكرية وأمنية، فهي تقوم بإنشائها لخدمة وجود قوة الاحتلال، ومن الطبيعي أنّ تنهار هذه المؤسسات بمجرد انتفاء علة وجودها، لأنّها لن تجد من تخدمه، فهي مصممة على قياس هذه الخدمة، كما أنّ الاحتلال لا يقوم بصناعة مقاتلين، بل موظفين، فالجيوش التي تصنعها قوات الاحتلال هي جيوش بلا عقيدة وطنية أو دينية، ومن دون حتى فكرة سامية تقاتل من أجلها، ويكون الرابط الوحيد بين أفراد هذه الجيوش والقوى الأمنية وبين المؤسسة هو الراتب، وفي الملمات لا يصلح هذا الراتب كقيمةٍ سامية لبذل الروح في سبيله. والحقيقة أنّ الهزيمة الأمريكية كانت مدوّية، حتى فيما لو قاتلت حكومة أشرف غني. ولكن اللافت أنّ حركة طالبان ورغم عامين من التفاوض الطويل، لم تمنح الولايات المتحدة هزيمة مشرفة، وأقصى ما استطاعت الحصول عليه هو الانسحاب الآمن. وقد يُحسب هذا في إطار البراغماتية التي بدأت تتقنها حركة طالبان.
وهذه الهزيمة غير المشرفة لا يجب تغييبها عن المشهد باختلاق ذرائع أو نظريات لا تدعمها الوقائع، فهذه هزيمة قبلها ليس كما بعدها، وحتى لو افترضنا رصانة نظرية المخطط الأمريكي، فإنّها هزيمة كالوحل، ليس من السهل الخروج منها أو التخلص من آثارها.
حين يطرح البعض أنّ هذا مخطط أمريكي لا هزيمة، يستندون إلى تاريخ حركة طالبان، وإلى المطلوب منها أمريكيًا مقابل تسليمها السلطة، وهو أن تكون الحركة عامل توتير في منطقة آسيا الوسطي وغرب آسيا، لاستهداف أعداء أمريكا وروسيا والصين وإيران، وكذلك لمنع الصين من تنفيذ استراتيجية الحزام والطريق، والتي تشكل أفغانستان جزءًا من طرق مواصلاتها، ولكن كسر هذه الاستراتيجية لا يحتاج إلى حركة طالبان لتكون عامل توتير، ولا يستحق عناء تلطيخ وجه الإمبراطورية بعار الهزيمة، وسخام الفشل بعد عشرين عامًا من الاحتلال وخسائر أكثر من 2 تريليون دولار وثلاثة آلاف جندي، كان يكفي توقيع من حكومة الدمية الأمريكية في كابل، لمنع الصين من التمدد في أفغانستان، وقطع طريق الحرير، فالإمبراطورية الأعظم في التاريخ، لم تستطع بعد 20 عامًا من الاحتلال، الاحتفاظ بسفارةٍ أو بدبلوماسي واحد، أو حتى بعلَمٍ أمريكي على مبنى السفارة كشاهد على بقائها، وهذا قطعًا ينسحب على النفوذ السياسي والأمني، حيث إنّه يصعب تصور وجود نفوذ مع انهيار كل المؤسسات التي أنشأتها، العسكرية منها والأمنية والسياسية، هذا فضلًا عن النفوذ أو القبول في الأوساط الشعبية، فبعيدًا عن وجه الاحتلال البغيض، الذي مارس القتل والتنكيل، فهو أيضًا كان يحمي منظومة فساد أرهقت المجتمع اقتصاديًا وماليًا.
إنّ الارتياح لسير الأحداث، وإن بتفاوت، الذي تبديه العواصم المستهدفة، حسب افتراض المخطط الأمريكي، موسكو وبيجين وطهران، يعكس بالقطع حقيقة الهزيمة الأميركية، فالتعبيرات الدبلوماسية التي تصدر من العواصم الثلاث، والتي احتفظت بسفاراتها في كابل، تمتاز بالتركيز على فكرة الهزيمة، وتتم في سياق طبيعة الصراع بين تلك العواصم منفردة وبين واشنطن، فالتعليقات الروسية بالإضافة لكونها تركز على الهزيمة الأميركية، يغلب عليها طابع الشماتة الخفية والظاهرة أحياناً، كبيان الخارجية الروسية مثلاً الذي قال ”إن ما يحدث في أفغانستان ناتج عن الفشل الأميركي، فواشنطن لا تعرف ماذا تفعل، ونحن على تواصل دائم”، فيما التعليقات الإيرانية صريحة أكثر في إشهار الهزيمة الأميركية، كتصريح الرئيس الإيراني” إنّ هزيمة أمريكا في أفغانستان فرصة للسلام الدائم”، وهو ما يعني أنّ الوجود الأميركي سبب القلاقل وعدم الاستقرار، وخروج أميركا من المنطقة أهم عوامل استقرارها، فيما تمتاز التصريحات الصينية بالأريحية المطلقة، وكأنّ حركة طالبان وزارة صينية، حيث اعتبرت الخارجية الصينية ”أنّ الشعب الأفغاني حرّ باختيار نظامه وحكامه، ولا مشكلة لدى الصين في إقامة نظام إسلامي في أفغانستان”، لذلك علينا ألّا نمنح أميركا بألسنتنا ما عجزت عنه طوال 20 عامًا، فنمنحها شرف القدرة على التخطيط، بينما هي تغرق في وحل الهزيمة، وعلى قاعدة الهزيمة يتيمة وللنصر ألف أب، تحاول أميركا التنصل من هزيمتها، حتى جو بايدن يحاول الفرار من تبعات قراره، وقد دعاه ترامب للاستقالة، لأنّه جلب عار الهزيمة.