أهلًا بكم على متن الخطوط السياسية العوكرية. قبطان هذه الرحلة يدعى الحكيم، وسوف تكتشفون خلال الرحلة أنّ الاسم لا يمتّ إلى المسمّى بِصلة، إلّا إذا ما كانت الشهادات بالطبّ أو بالحكمة تُمنح للمتخرجين من السجون بعفوٍ بعد الإدانة بجرائم قتل متنوّعة، من الاغتيال إلى المجازر. نتمنى لكم رحلة أنيسة في الدقائق التالية. تشبثّوا!
كنتُ أمزح. لا يمكن لأي شريف أن يرضى لنفسه الصعود على متن رحلة يقودها من يحمل صفات سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، المنحلّة سابقًا، والعائدة من ناحية الحاجة الأميركية إلى أدوات بشرية في السياسة اللبنانية الداخلية.
كلّ من شاهد العرض الجعجعي يوم أمس، أمكنه أن يلاحظ فصاحته محاضرًا بالعفة، وإنسانيته متحدّثًا عن شهداء المرفأ وأهلهم. صحيح أن سمير لم يتقن الدور جيّدًا وبدا فضفاضًا عليه أن يتحدّث مطالبًا بحقوق الناس، لكن الحاجة العوكرية فرضت هذا الاستعراض اليائس والذي لشدّة انكشاف زيفه، بدا مملًّا وفكاهيًا في آن.
يريد سمير جعجع أن يردّ على السيّد نصر الله. لا بأس. ومما لا شكّ فيه أنّه استخدم للردّ كلّ أدواته الذهنية وكلّ طاقته ليرتّب ردًّا يقول فيه للمتأمركين جميعًا: تفوّقت عليكم وسبقتكم إلى الردّ على السيّد نصر الله، عدوّ أميركا وسائر محور الشرّ وأدواته. لقد أراد أن يقول إنّه الأحرص على ما تريده عوكر، والأجدر بتمثيلها وذيلها السعودي في الساحة اللبنانية.
يمكن للمرء أن يتغاضى عن التفاوت الهائل في القيمة بين قائد حكيم أمين صادق محترم، وبين سياسي دعَوه بـ “الحكيم” ولم يظهر عليه حتى الساعة أي سمة من سمات الحكماء. كذلك يمكن لنا أن نغضّ الطرف عن الفرق الشاسع في الوزن التمثيلي بين سيّد صادق الوعد موثوق حتى في أوساط العدو، محبوب بشكل عابر لكل الاعتبارات المعتادة لبنانيًا، وبين مدان قضائيًا معفوٍّ عنه بالكاد يتفوّق عليه بالحجم التمثيلي زعيم أصغر عشيرة لبنانية، حتى أنّنا قد نتجاهل حقيقة تقول إن من نكد الدهر أن يكون هذا الهزيل تمثيليًا وشعبيًا حتى في شارعه العتيق في صدد الردّ على ما قاله قائد عابر للحدود، ندٌّ لأعتى جيوش الظلم في العالم، ومنتصر ناصر لكلّ المستضعفين في الأرض. سنتخطى هذه الاعتبارات الأساسية في مقاربة ردّ جعجع بالشكل، ونتعامل بتجرّد مع المضمون، قدر المستطاع.
يدافع سمير جعجع عن بكركي. للجاهل يبدو الأمر بديهيًا، للعارف بأبسط قواعد السياسة والملمّ ببعض أحداث التاريخ الحديث، يبدو الأمر مضحكًا إلى حدّ ما، لا سيّما حين وصف جعجع حملات الردّ على الراعي بالحملة “الأقذر”؛ فالقذارة ليست الصفة المناسبة لردود سياسية على خطاب سياسي أميركي أُطلق من خلف متراس طائفة، متحصّنًا بالمنصب “الدينيّ”. وبمعنى أدقّ، القذارة المشهودة تتمثّل في إسقاط حقّ الدفاع عن النفس بوجه الصهاينة عن الناس، واعتبار الانبطاح للرغبة الأميركية دليلًا سياديًا. والقذارة التي تشكّل سابقة في تاريخ الشعوب، وإن كانت عادة لبنانية، هي تجاهل الاعتداء الصهيوني وكأنّه “مفرقعات في عرس الجيران” والاصطفاف ضدّ من يواجهونه! والقذارة.. أو نكتفي بهذا القدر منها وننتقل إلى العنوان التالي في الردّ الجعجعي على خطاب السيّد.
لم يملّ جعجع ولا ملّ معلمّوه من محاولة تحميل حزب الله مسؤولية انفجار المرفأ ولو تلميحًا. وفيما هم يستميتون في تضليل التحقيق عبر تسييس الملف، يجتهدون في الدفاع عن القاضي بيطار في مساعيه القضائية الغريبة الأطوار. بكلّ موضوعية، يكفي للشكّ في مسار التحقيق أن يكون مضلّلوه هم المدافعون عن سياقه واستدعاءاته المريبة.
كذلك، استخفّ جعجع، ذو الوزن التمثيلي الخفيف جدًا والارتباطات غير المشرّفة، بمخاطبة السيد لأهالي الشهداء، وبدا مربكًا في محاولة تسطيح كلام السيد الموجّه لهم والذي يشير إليهم بالسير إلى الوجهة المنطقية الصحيحة لتحركاتهم والتي من المفترض أن تتضمن أبسط حقوقهم: الإفراج عن نتائج التحقيق الفني. وهنا، لا يعلم أحد، حتى الساعة، ما سر خوف جعجع من أن يتجاوب أهالي الشهداء مع نصيحة السيّد نصر الله.
ولكي يكتمل الاستعراض المجعجع، لم يستطع زوج النائب ستريدا طوق وصاحب نسبة التمثيل المتدنية في شارعه إلّا تصديق نفسه إلى حدّ اعتبار أن دائرة حزب الله في البلد هي دائرة ضيّقة ومحدودة. وهنا بدا كمنافس لدمى الإعلام العوكري الذي توقفوا في حادثة شويّا عند نوع الشاحنة ليستنتجوا أن قدرات حزب الله العسكرية متواضعة ومحدودة. لم يتفوّق عليهم، وعليهنّ طبعًا، بحكم كونه وإياهم لاعبين ضمن فريق واحد مبرمج سلفًا في أروقة عوكر .
عبارة “الدائرة الضيقة” تحوّلت إلى محلّ سخرية كلّ الناس حتى الخصوم، وبعض الأعداء؛ فالدائرة الضيقة بحسب جعجع هي دائرة تحوي، في ما تحوي، جمهورًا يُدعى بأشرف الناس، جمهورًا عابرًا للطوائف والمذاهب والطبقات والفئات، جمهورًا محصّنًا بالوعي وبالبصيرة، ومحصِّنًا مقاومته بأجفان العيون.
لقد أراد المدعو سمير جعجع من ذلك كلّه انقاذ ما يمكن انقاذه بعد أن أتت رياح الحقّ والقوّة المتعاظمة بما لا تشتهي سفن عوكر، وكلّ الأصناف التي تتواجد عليها. لكن السّحر انقلب على السّاحر، ومقولة “اكذب ثم اكذب حتى يصدقك النّاس” لم تعد تنفع في ظلّ سطوع براءة حزب الله من نيتراتهم.
درجت العادات على اعتبار المدانين بارتكاب المصائب فوق رؤوس الآخرين أوّل المشكوك بهم كلّما وقعت مصيبة جديدة. وهُنا، بالمنطق، يحق للصغير وللكبير وللـ”مقمّط بالسرير” التساؤل بتجرّد عن احتمال دور لصاحب السوابق في ارتكابٍ هزّ العالم اسمه: انفجار مرفأ بيروت.