تمر اخبار ما يحصل في خلدة متسارعة، مشاهد الشباب مخضبة بالدماء والاخبار المغلوطة تأتي من كل غروب وصفحة وقناة، وصراخ أحد الشباب الغاضبين بصوتية يتم تناقلها على المجموعات الإخبارية يجب ان نقاتل ونحرق الأخضر واليابس. مشهد أعاد الى ذهني مشاهد 13 أيلول 1993 عندما كنت طفلًا وقد خرجت مع ابي في مسيرة تهتف لفلسطين ضد اتفاق أوسلو لينتهي بي المطاف مختبئًا في حضنه محاولًا حمايتي بجسده من زخات الرصاص المنهمر فوق رؤوسنا. توقف الرصاص وعدنا الى باحة الشورى وكان هتاف الشباب الغاضب يا شورى يا أفاضل نريد أن نقاتل، فكان الجواب من السيد حسن نصر الله الذي كان قد اصبح أمينًا عامًّا قبل عدة اشهر: سنقاتل لكننا سنقاتل اسياد هؤلاء. كان الهدف وقتها جر المقاومة الى قتال داخلي ينتهي بسحب سلاحها، فهمَ عقل حزب الله المخطط، عض على الجرح وأفشل المشروع.
يعتبر فهم منهجية عمل الخصم او العدو وتقدير ردة فعله تجاه عمل او نشاط معين احد اهم عناصر التخطيط في الحروب والصراعات. ولعل هذه من اهم نقاط قوة حزب الله التي اعترف بها العدو الصهيوني عدة مرات حيث انه دائمًا يفاجئه بردات فعله، فتارة تجده صابرًا تجاه قضية يعتقد العدو انها ستقيم الدنيا ولا تقعدها وفي البعض الآخر تجده يقف ليضع حدودًا كبرى لتفاصيل جزئية بسيطة. وما بين هذا وذاك معادلات ترسم بدقة وتجاوزها يصبح خطًّا احمر.
في سوريا ولاحقًا في العراق يمكن ان نعود بالزمن الى الوراء ونقرأ تفاصيل الاحداث في عدد من دراسات أعدتها مراكز الأبحاث في الكيان منذ عام 2006، لكن أبرزها دراسة تفصيلية عما يجب فعله في سوريا وللمفارقة نشرت في موقع الجزيرة عام 2009 من باب الاستنكار لما يخطط له العدو.
لكن من خطط للحرب وحشد كل نقاط القوة من مال لو صرف في التنمية لتربع صاحبه على عرش قلوب كل العالم العربي، وسلاح لو وظف في قتال العدو لتحررت فلسطين، وعديد بشري بعشرات الالاف ان لم نقل مئات من كل انحاء العالم، مع ماكينة إعلامية مهولة، وتحريض طائفي وصفه البعض بأنه الأكبر من 1400 سنة، كل ذاك فات اصحاب المشروع تقدير ان عقل الحزب سيفعل ما فعل من تدخل عسكري في سوريا؛ فالحزب نفسه الذي عمل طويلا في البداية لتقريب وجهات النظر بين الدولة وبعض أطياف المعارضة الأساسية، عندما اتضحت الأمور اتخذ قرار المشاركة ببصيرة سقط في امتحانها اقرب الناس الى النظام السوري وصبر على الأذى والعمليات الإرهابية وتحمل الكذب والتضليل وكسر الصورة وغيرها الكثير.
فشلت الحرب وتحطمت أهداف العدو التي شنت لأجلها الحرب، وأول من استخلص منها العبر كيان العدو نفسه حيث غيّر سيناريوهات الحرب المقبلة مع الحزب بما في ذلك من صعوبات كبيرة جدا يفهم معناها جيدا اهل العسكر وأصحاب الاختصاص.
أما في الداخل اللبناني وبغض النظر عن أن خصوم الحزب لا يرقون لمستوى الخصومة لكن السيرة الذاتية تظهر خطأهم الدائم في تقدير ماذا سيفعل عقل الحزب، وردة الفعل على قرارت 5 أيار الشهيرة خير دليل، وغيرها الكثير من المحطات في السياسة وغير السياسة ليس أولها مجزرة فتح الله في الثمانينيات.
اليوم ولبنان يتخبط بأزمات اقتصادية ناتجة عن حصار العدو وبالشراكة مع حلفائه الفاسدين وسياساتهم المالية والاقتصادية التي أوصلت لبنان الى ما وصل اليه، يخطئ مجددا العقل الذي خطط للحرب في سوريا انه يستطيع ان يستنسخ في لبنان نموذج مسلحي سوريا او صحوات العراق مستخدما عصابات مسلحة بعض رموزها قدم سابقًا مساعدات لوجستية للانتحاريين والعمليات الإرهابية.
الحزب رغم انه صبور جدًّا، ولا تحركه العواطف، عندما يرى ويقدر أن القضية لم يعد يمكن السكوت عنها ووصلت الى مرحلة تهديد السلم الأهلي، والدولة والأجهزة الأمنية تتقاعس عن أداء واجباتها، تسقط عنده كثير مما يعتقد خصومه انها نقاط حمر ومحرمات لا بل تتحول عنده الى واجبات وعلى نطاق الحاجة بحدود الضرورة بحسب البعد الشرعي الذي يشكل الأصل في عمل الحزب وكل ذلك لأجل حفظ هذا السلم الأهلي ودرء الفتنة على المدى الطويل اللذين يشكلان احدى أولويات عمله، وأيضًا وأيضًا حفظ كرامة جمهوره الذي يشكل أصلًا محوريًا عنده، خاصة مع ما عاناه هذا الجمهور من مرارة قطع الطرق والاعتداء على المارة وعلى أرزاق الناس في خلدة وغيرها.
قالها أمين عام حزب الله قبل 15 عامًا: 25 سنة ما فهمتونا ولا رح تفهمونا. كان الحزب عندها في عمر الشباب وفعل عقله ما فعل، اليوم الحزب أصبح في الأربعين وصرخة ذاك الشاب لا زالت نبض الحزب تتجدد جيلًا خلف جيل والعقل القيادي الذي لم يستطع العالم كله ان يواجهه في العشرين كيف يمكن مواجهته وقد بلغ الأربعين؟