تخيل أن هناك جيشًا ينظم نفسه، ويجهز العديد والعتاد، ويبذل الجهد في اتجاه عدو غزا أرضه وأوغل في الناس قتلًا وأسرًا وتهجيرًا. في هذه الحالة يكون كل التركيز والجهد مصبوبًا تجاه العدو المحتل، وخلف هذا الجيش مجموعة استغلت حالة الحرب، واستغلت قيام هذه الحالة المدافعة عن السيادة وجعلت جهدها وتركيزها مصبوبًا على الاستفادة الشخصية، أي السرقة والنهب، وكأن ليس هناك أرض محتلة وليس هناك من أحداث عسكرية تجري على الأرض.
هذه الحالة كانت ولا زالت في لبنان مع بعض الإضافات.
منذ البدء العملي الفعلي للمقاومة في لبنان بعد اجتياح عام 1982 كان كل تركيز المقاومة على قتال المحتل الصهيوني، وكان تركيز الفاسدين على سرقة الدولة اللبنانية، السرقة بكل ما للكلمة من معنى؛ فحينما كانت المقاومة تقاتل وتبذل الدماء لتحرير الجنوب، كان الفاسدين يبذلون أفضل جهودهم لسرقة الأموال والأملاك العامة، وقد سرقوا ما يعادل مساحة المنطقة الجنوبية التي كانت محتلة من أملاك بحرية ونهرية وجبلية، وحولوها إلى منتزهات ومنتجعات ومرامل وكسارات ومطامر للنفايات والنفايات السامة.
في الوقت الذي كانت فيه المقاومة تخوض حرب التحرير لاسترداد سيادتنا التي فقدناها نتيجة الاحتلال، كانت تجري السرقات من قبل الفاسدين دون قيد أو شرط، وحسب المثل الشعبي “على عينك يا تاجر”.
لقد مررنا بمفاصل أساسية خلال فترة حرب تحرير الجنوب والبقاع الغربي وما بعدها في حرب تموز حيث هيأت المقاومة “جمهورها” نفسيًا وعقائديًا ومعنويًا على مدى تلك الفتره بأن علينا أن نصل إلى تحقيق النصر وتحصيل السيادة على الأرض المحتلة بغض النظر عن الكلفة المادية والبشرية، فالمهم هو تحصيل الهدف السامي للحركة المقاومة. وهذه التهيئة تقبّلها الجمهور بروح معنوية عالية مع كل الضريبة التي كان يتحملها وبشكل يومي من خسائر في الأرواح والممتلكات، إلى أن امتلكنا نصرين نقيين لا غبار عليهما عام 2000 مع التحرير وفي عام 2006 مع دحر العدوان وما تلاه من تحرير الأسرى، وتحقيق الردع.
في تلك الفترة استطاعت المقاومة أن ترفع مستوى الوعي لدى بيئتها وجمهورها الى أعلى الدرجات. وهذا الوعي كان سببًا في تحقيق النصر، في حين أن باقي الفئات اللبنانية كانت شبه غائبة عن تكوين فكرة سيادة الدولة وكيفية تحقيقها، وكأن أمر احتلال الأرض لا يعنيها وكأن الجنوب تابع لدولة غير الدولة اللبنانية، إضافة إلى أنها كانت تغط في سبات عميق وتغمض أعينها عن جريان الفساد وانتشاره في مفاصل الإدارات والمؤسسات العامة، وتم تخدير معظمهم بالحشو الوظائفي والوظائف الوهمية، والأموال الانتخابية والزفت “الأبيض” والتلزيمات والتنفيعات بحيث إن معظم هذه الفئات سرقت أموال الدولة وسرقت نفسها بعلم وجهل.
بقيت تلك الفئات “نائمة على آذانها” الى أن جف التمويل الخارجي وتبخرت الأموال من المصارف؛ فبعد أن كانت مخدرة، أيقظتها التداعيات والإعلان أن لا مال لكم بعد اليوم، وقامت وسائل إعلام الفساد بتلقينهم دروسًا في الجهل والغباء فوق جهلهم وغبائهم بأن سبب الأوضاع الاقتصادية التي وصل إليها لبنان هو تلك الفئة التي حملت السلاح وحررت الأرض، وبالتالي فإن من كان الجهل سيرته ستكون الفوضى سلوكًا طبيعيًا لديه. فانتقل هؤلاء الجهلة والأغبياء من الصورة الأولى التي كانوا فيها بحالة من السبات وإغماض العيون عن سرقة الدولة لتشكيل حالة من الفوضى والتشويش خلف الجيش الواقف في وجه العدو.
باختصار إن بعض مجاميع القوى التي تتحضر في ذكرى تفجير مرفأ بيروت لم تكن يومًا تفهم معنى السيادة ولا معنى المواطنة ولا معنى الوطن، والذي حركهم جفاف المال لا جفاف الكرامة، والذي يحركهم نفس حفنة الفاسدين الذين نهبوا الوطن ويريدون أن يهربوا من المحاسبة. وإن الجهة الوحيدة التي ستحاسبهم هي نفس الجهة التي عرفت معنى الوطن والسيادة والمواطنة والكرامة الوطنية. ولأنها الجهة التي حققت الجزء الأول من السيادة بتحرير الأرض، على يديها سيتحقق الجزء الثاني من السيادة بتحرير الدولة من المفسدين، وستتحقق على يديها إضاءة العقول التي عم فيها الجهل وعششت فيها المادة.
في ذكرى تفجير مرفأ بيروت علينا أن نحدد جيدًا ومجددًا العدو من الصديق؛ العدو من دمر ممتلكاتنا وقتل أهلنا على مدى عقود، والعدو من سرق مقدرات وطننا، والعدو من زرع الجهل في جماجم الكثيرين.
على طريق إنجاز التحرير الشامل نحن نعرف أعداءنا وهم كثر، ونعرف أصدقاءنا وهم أقل بكثير من أعدائنا، وبينهما عرفنا الكثير من الجهلة والكثير من الذين ينعقون مع كل ناعق.