قبل عام بالتمام، لم نكن نعلم أنّ الزمن يقترب فينا من انفجار كارثيّ سيصفع قلوبنا بالفقد وبالخوف، وأنّنا على مسافة أيام قليلة من تلقّي عصف تفجير حمل إلينا كلّ أشكال الأذى الماديّ والمعنوي.
هنا في الضاحية، حيث في كلّ بيت عزيز يعمل في بيروت ووسطها، وحيث الفقراء الذين وجدوا فرصة عمل في المرفأ الكبير، وحيث العائلات التي يتعبها الاكتظاظ فتلجأ إلى فسحة بحرية في بيروت، وحيث كلّ عائلة تعرف تمامًا لون القهر الذي يحلّ على الأرواح سميكًا حال فقد الأعزّة وخسارة المنازل والأرزاق.. وهنا، حيث المصاب حلّ في البيوت التي تحيي ذاكرة تموز ودماره، لا أحد كان يتوقّع الآتي، ولا أحد علم أنّه سيتجرّع مع الوجع الآتي وجع التهمة بارتكابه.
واليوم، مع اقتراب الذكرى وتعدّد وجوه استثمارها، نعلم تمامًا ما ينتظرنا في احتفال الذكرى الأولى للكارثة؛ فالمحتفلون لم يكلفوا أنفسهم جهد إخفاء نواياهم وادعاء الوقفة الإنسانية الأخلاقية مع أهل الضحايا. عمليًا، ثمّة من يحاول الذهاب إلى أقصى الاتهام محتفلًا فوق الركام وفوق التضليل، مبتهجًا بالضحايا الشهداء والجرحى، ومستثمرًا في حزن أحبّتهم، موجهًا صوبنا اتهامه السياسي المدفوع سلفًا، أو محاولاً ارغامنا على دخول دائرة الدفاع عن النفس واثبات أنّنا في صفّ المتضررين المتأذين من الانفجار، ولسنا مرتكبيه!
اهتزت الأرض في ذلك اليوم، والصوت العميق تلاه صوت تكسّر زجاج المباني وأبواب البيوت، فالعصف الذي وصل إلى الضاحية كان الدليل الأول، الذي سبق المشهد، إلى حجم الدمار في المرفأ وفي بيروت.
ما زالت مشاهد ذلك اليوم حاضرة كسكاكين تنغرز في العيون. أصوات الأهالي الباحثين عن أمل بسلامة أبنائهم، دموع الفقد، الدم، الجراح الظاهرة.. كلّها ما زالت حاضرة كأن عامًا لم يمرّ. والعصف الذي وصل الضاحية مخفّفًا، سرعان ما تزايدت قوّته على هيئة تهمة، تهمة وقحة بلغت بمرتكبيها أن يصنّفوا الضحايا الشهداء وفق اتجاهاتهم السياسية وأماكن سكنهم. وإن بدت ثقيلة، حاول الحقد أن يصنّف الضحية الذي يسكن في الأشرفية كضحية من الفئة الأولى، أما ابن حيّ اللجا الذي قضى في التفجير، فلم تقصد أهله فرق الإعلام ولا زارتهم الوجوه الثورجية الغاضبة للتعزية والوقوف على الخاطر!
تقترب الذكرى، ومعها ترتفع وتيرة التهمة التي يعلم مطلقوها أنّها كذبة بحجم الكارثة، وأنّها المدخل الأساسي لإضاعة الوقت وتمييع حقّ أهالي الضحايا. فشعار الحقيقة الذي رافق قصة التحقيق في اغتيال رفيق الحريري حدّ إخفاء كلّ الخيوط التي تقود إلى الفاعل، والذي ظلّل شهود الزور وحصّنهم، والذي زجّ بالضباط الأربعة في السجن ظلمًا، عاد اليوم للهدف نفسه: إخفاء الحقيقة. وما إخفاء نتائج التحقيق الفني في قضية انفجار مرفأ بيروت إلا قطعة من أحجية العمل على إخفاء الحقيقة.
اللافت في الأمر أنّ الداعين إلى الاحتفال بالمناسبة لا يبذلون جهدًا للتظاهر بالحزن على الضحايا ولو نفاقًا، فهم مستعجلون لتحقيق الهدف المطلوب منهم في ذكرى التفجير: التصويب على سلاح حزب الله واتهامه زورًا وعلنًا بالمسؤولية عن التفجير.
ومن عادة المستعجل أن لا يتأنى في إخفاء وجهته وما يريده. فتراه لا يضيّع وقته بصياغة خطاب مقنع، بل يعمد إلى ترداد ببغائي لأفكار محدّدة وردت إليه في تعليمة من معلّمته المعروفة بساحرة الوكر العوكري، شيا.
على وقع نزف قلوب أهالي الضحايا، الذين تمّ تصنيفهم بدورهم بين فئة أولى وهي الفئة التي تتهم حزب الله وأهله بما جرى، وبين فئة ثانية كلّ ذنبها وذنب أبنائها أن ترفض أن يُعرض وجعها ودمها في سوق الاستثمار السياسي الموجّه، يتداعى المشبوهون إلى حفل في الرابع من آب، حفل بتمويل متعدّد الوجوه في خدمة وجهة واحدة: اتهام حزب الله بالمسؤولية عن تفجير المرفأ
على سبيل الواقعية، أولياء الدم، مهما بلغت درجة تقديرنا لألمهم ولخسارتهم، ليسوا دائمًا على حق، بل هم أعداء الحق حين يرتضون أن يتحول الدم الذي هم أولياؤه إلى ورقة سياسية بيدٍ عوكرية ملوّثة بالدم المظلوم، وبالشعار السياسي الظالم.
ولذلك، بعيدًا عن التعاطف الإنساني والأخلاقي، ما تمّ التغاضي عنه وتجاوزه من كلمات حاقدة وجهت إلى بيئة المقاومة باسم اهالي الضحايا غداة التفجير، والتي بلغت حد “يروحوا يفجروا الجنوب شو خصنا نحنا”، بحجة الحزن والصدمة، لا يمكن الاستمرار في التعامل معه بالتجاوز والتجاهل بعد انقضاء الصدمة وبعد ظهور كل مؤشرات العمل السياسي المدبر والموجه ضد المقاومة وبيئتها وسلاحها. فاليوم، وبعد عام على الفاجعة، لن يكون من المقبول أن نجد أنفسنا في موقع الذي يحاول توعية ذي الخاطر المكسور إلى ظلمه بالحجج والبراهين، فقد مرّ تقريبًا عام كامل ونحن نردّ على منطق الاتهام السياسي بلباقة من يحترم الحزن ويقدّر “فورة دم” الفاقدين. أما أن تتحول الذكرى إلى حفل انتخابي فني يعرف القيمون عليه ما يفعلون من خلف ستار التباكي على الضحايا وأهلهم، فهي إساءة مزدوجة وواقعة بالدرجة الأولى على القلوب التي احترقت بجمر التفجير، ويحاول البعض استثمار حروقها خدمة لإخفاء حقيقة ما جرى.