فرح فران – خاص الناشر |
كلمات قليلة من جو بادين أوهَمت كُثرًا حول كوبا، فبحسب تعبيره “كوبا دولة فاشلة”، لكن القيادة الأمريكية تَعلم جيدًا أن كوبا كانت قوية في معركة محاربة كورونا بجيشها الأبيض واستراتيجيتها على الرغم من العقوبات المفروضة عليها.
كوبا مصنع طبي
تعتبر كوبا من الدول التي تمتلك طاقات كبيرة، فآلاف الأطباء والعلماء ممن درسوا وعملوا في كوبا يسافرون إلى الدول المجاورة، الأمر الذي عاد بالإيجابية عليها وازدهارًا في اقتصادها واقتصاد الأميركتين من خلال الجامعات الطبية المتوفرة لما يقارب 124 جنسية.
ولعل أبرز مسببات الازدهار يعود لسنوات سابقة، لكونها أول دولة في العالم تستطيع منع نقل العدوى بفيروس نقص المناعة المكتسبة من الأم إلى جنينها، والفيروسات الكبدية بعلاج “Interferon Alpha B2” – الإنترفيرونات هي بروتينات تنتجها أنواع مختلفة من خلايا الجسم، تعمل على تحفيز الخلايا المناعية لمقاومة الفيروسات ومنع انتشارها – الذي جعل كوبا وتقنياتها العلمية التجريبية حديث الصروح الطبية والعلمية.
وبالحديث عن الصروح العلمية، يعتبر “مركز الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية” أحد أهم المعاهد، وقد تأسس عام 1986 وترأسه العالم “لويس هيريرا”، فيما شغلت العالمة “كونسبسيون كامبا” منصب المديرة العامة للمعهد والذي انتج اول لقاح لـ “التهاب السحايا” في العالم بعد تأسيسه.
تُساهم الخدمات الطبية بأكثر من 43% من الصادرات الكوبية و6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتبلغ عائدات الحكومة الكوبية من صادرات الخدمات الطبية ما يقارب 11 مليار دولار في العام الواحد. وساهمت هذه العائدات باقتطاع كوبا نسبة تصل حتى 10.6% لصالح الخدمات الصحية من ميزانيتها القومية، مقارنة بالاتحاد الأوروبي الذي يساهم بنسبة 10% من ميزانيته للخدمات الطبية.
نظام الرعاية الصحية
يتفق المتابعون في قطاع الصحة العامة عالميًا، أن كوبا حققت خلال العقود الأولى من الثورة إنجازات كثيرة في القطاع الصحي بشكل خاص، إذ قامت بتوفير الرعاية الطبية وتحقيق التغطية الشاملة والمجانية، وبنت نظامًا صحيًا يركز على الرعاية الوقائية. وقد اعتبرت “عيادة طب الأسرة” والتي توفر العلاج في العيادات الطبية وزيارات المرضى ورؤية أقاربهم العمود الفقري لقطاعها الصحي مع ربط السكان – المرضى – بسجلات متماسكة يجعلها قادرة على متابعة الحالات الطبية، ما أثَّر إيجابًا في فترة ثمانينيات القرن الماضي على القضاء على معظم الأمراض المعدية.
وتسهم كوبا في توفير الخدمات الطبية بمنحى تجاري، ففي التسعينيات بادلت كوبا اطباء ومهنيين مع فنزويلا مقابل النفط، وفي البرازيل عام 2013، عقد “ديلما روسيف”، الرئيس البرازيلي في تلك الفترة، صفقة جعلت من البرازيل ثاني أكبر مستورد للأطباء الكوبيين بعد فنزويلا. وهكذا، وصل تسلسل هذه الصفقات إلى عدة دول منها أوغندا، وكينيا، والجزائر والبرتغال.
بفعل هذه الاستراتيجية، أصبح لدى كوبا ثلاث أساسيات للرعاية الصحية بشكل شامل:
- خلق كم من الكوادر المؤهلة
- صناعة التكنولوجيا الحيوية والدوائية
- الاستجابة للكوارث الطبيعية واحتواء الأوبئة.
حاليًا، بحسب إحصاءات عام 2020، تجاوزت أرقام وفيات الرُضّع في الولايات المتحدة تلك المسجلة في كوبا، ليكون بذلك أول تفاوت صحي بين دولة من العالم الأول وأخرى من العالم الثالث. أما التمويل العام، فيأتي نتيجة الاقتصاد السياسي المخطط مركزيًا من الدولة، واستراتيجية التنمية التي منحت الأولوية للرعاية الصحية والتعليم والبحث العلمي منذ الثورة. بالطبع كان التفاوت قبل الثورة واضحًا بين اغنياء وفقراء ومدنيين وقرويين، لكن بعد الثورة قال “تشي غيفارا” أمام مجموعة من طلبة وخريجي هافانا عام 1960 إنه “يجب أن نتذكر كيف كانت حياة كُلٍّ منا قبل الثورة، ما الذي فعله كل منا وكيف كان يفكر، كطبيب أو بأي صفة أخرى في الصحة العامة. وسنخلُص إلى أن قرابة كل ما فكرنا أو شعرنا به في الحقبة الماضية يجب أن يطويه الماضي، ويجب أن نخلق إنسانًا من نوع جديد”.
إن سياسة الحكومة الكوبية تقتضي بوضع الطلاب تحت تصرفها عند الحاجة اليهم، وتقوم بصرف جزء من معاشاتهم لعائلاتهم داخل كوبا، وجزء لهم، وجزء لتمويل خدمات، وتمويل “كلية اميركا اللاتينية للطب” التي تعتبر واحدة من أكبر كليات الطب في العالم، بحيث تستقبل 29 الف طبيب من 100 دولة في العالم. لكن من وجهة نظر الأطباء، فإن هذه السياسة عادلة لأنها “ثروة مقابل متوسطات الدخل الباقية في البلاد”.
حصار يقابله ازدهار طبي
عام 1960، وضعت كوبا هدفًا واضحًا وهو “لماذا لا يتم ابتعاث فرق طبيّة دائمة في عدد من البلدان، على أن تدفع تلك البلدان المقابل نقدًا بالعملة التي تُحددها كوبا؟”. نجحت كوبا ببناء قواعد طبيّة لها في دول عدة منها قطر والبرازيل والإكوادور، بلغ عددهم نصف مليون طبيب مع اتباع آلية دفع بالدولار الأمريكي حتى 2010.
فيدال كاسترو: مؤسس الدبلوماسية الطبية الكوبية، وحدة هنري ريف
رأى فيدال كاسترو أن شعبًا متعلمًا وبصحة جيدة هو أكبر استثمار للثورة الكوبية. وهكذا قامت الثورة الكوبية بانتاج جيل كامل متكامل من الاطباء داخل اراضيها. واليوم، تقف كوبا في مقدمة الدول في الطب، كأكثر الدول المصدرة للأطباء.
كاسترو هو واضع مفهوم “دبلوماسية كوبا الطبية”، حتى بات اليوم يستحوذ هذا المفهوم على حياة الكوبيين.
ومنذ ١٥ عامًا، أسس كاسترو وحدة «هنري ريف»، وهو رمز عسكري وسياسي كوبي، ولد في بروكلين في الولايات المتحدة وتوفي في كوبا. صُممت الوحدة لتكون خط الدفاع الأول ضد الطوارئ الطبية، وتمتاز بالاستجابة السريعة والمُنظمة لحالات تفشي الأمراض والكوارث. بفعل الحصار الأمريكي الحالي، كوبا تعاني من تقصير في الخدمات ووجود السوق السوداء وتراجع كفاءة الخدمات الطبية بشكل ما، لكن كوبا تبقى رائدة طبيًا.
احتواء الجائحة عالميًا: كوبا الحاضنة
بسبب هول الجائحة ووضوح عدم جهوزية دول عدة لها، كانت خبرات الأطباء الكوبيين مطلبًا لبعض هذه للدول، بحيث مدّت كوبا 23 دولة حول العالم بخبراتها. فنزويلا كانت أول الطالبين لهذه الخبرات، ليطلب بعدها وزير الصحة الايطالي المساعدة من كوبا لمحاربة الوباء، لتلبي كوبا المطلب خلال أسبوع. وقد بلغ عدد العمال في القطاع الطبي الذين لبّوا نداء المساعدة 593 عاملًا مقسمين على “179 طبيبًا، و399 ممرضة و15 فنيًّا أرسلوا إلى 14 دولة مختلفة.
انتصار دولة ضد جائحة
قبل ثلاثة أشهر من انتشار الفايروس، وضعت كوبا خطة صحية شاملة في كانون الثاني/يناير تشمل نقاطًا متعددة:
- تدريب الطاقم الطبي وإعداد المرافق الطبية وتوعية الناس.
- إغلاق الحدود وفرض إجراءات المراقبة وتكثيف الفحوصات
- وضع المستشفيات العسكرية في خدمة المرضى.
اعتُمدت هذه الخطة الوقائية منذ بداية انتشار الجائحة عالميًا حتى سُجلت أول إصابة بالفيروس في 11 آذار/مارس 2020 داخل الأراضي الكوبية. ونتيجة الخطة، حدثت فقط 1983 إصابة بالفيروس، إضافة إلى 82 حالة وفاة وسجلت 1734 حالة شفاء.
كوبا مصنع لقاحات
تقوم كوبا بدراسة أربعة لقاحات داخل مختبراتها، إضافةً إلى تجارب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية للوصول إلى لقاح مشترك. وفي وقت لاحق، أعلنت كوبا، أن اللقاح الأول «عبد الله» فعّال بنسيبة 92%، أما اللقاح «سوبيرانا 02» فهو فعّال بنسبة 62%. أما اللقاحات السابقة، فالأكثر شهرة هو لقاح “السحايا” الذي اختبرته كوبا على 100 ألف طالب أعمارهم تتراوح بين 10 و14 سنة، بعد قيام العلماء بتجربته أولًا على أنفسهم وأطفالهم قبل التجارب السريرية، حيث أظهر فعالية تصل حتى 83%. بين عامي 1989 و1990، لقّحت الدولة ثلاثة ملايين كوبي باللقاح عينه، بنتائج إيجابية وفعالية تترواح بين 83% و94%، وهو ما جعل كوبا تُقلّد “الميدالية الذهبية للأمم المتحدة للابتكار العالمي”.
باختصار، كوبا ليست ضحية لمواقفها ويجب دفع الثمن لاستقلالها المستحق كما يرى البعض، هي فقط لامبالية للبروباغاندا الأمريكية، وبمعنى آخر، كوبا الشيوعية تقف في وجه الحملات الدعائية الامريكية كالمنتصر اليوم أكثر من أي يوم.
باحثة وكاتبة في العلاقات العامة، والعلوم البيولوجية والبيولوجية الخلوية