في بلد اعتاد أن تُدار السياسة فيه عبر الإيحاء والوسيط والهاتف، لا عبر المواقف المعلنة، برز اسم “أبو عمر” –ويُشار إليه أحيانًا باسم “أبو عمار”– كشخصية ظلّ، قُدِّمت في الكواليس على أنها قناة تواصل غير مباشرة مع السعودية، قبل أن تتكشّف تدريجيًا حقيقة مختلفة تمامًا.
الرجل لم يظهر في واجهة المشهد، ولم يحمل صفة رسمية، لكنه تحرّك في المساحات الرمادية، مستندًا إلى خطاب واحد: “الرياض عادت”. بهذه العبارة، فُتحت له أبواب، ودخل إلى دوائر سياسية وإعلامية، وتواصل مع نواب حاليين وسابقين، ومستشارين، وشخصيات تبحث عن إعادة تموضع في لحظة إقليمية ضبابية. لم يكن يقدّم وثائق ولا مواقف رسمية، بل رسائل، ووعودًا، وإيحاءات بنفوذ سعودي مباشر، في بيئة سياسية لطالما عدّت الرضى الخارجي شرطًا مسبقًا لأي مسار داخلي.
في هذا السياق، جرى التداول بكلام مفاده أن بعض المسارات السياسية، بما فيها ما قيل عن أجواء تكليف رئاسة الحكومة، مرّت عبر هذه القناة، أو على الأقل جرى تسويقها على أساس أن الاسم المطروح “مقبول سعوديًا”، وأن الغطاء الإقليمي متوافر. هذا الكلام لم يصدر يومًا عن جهة رسمية سعودية، ولم تُسجَّل أي إشارة علنية تؤكده، لكنه استُخدم في السوق السياسية اللبنانية كأداة إقناع، وربما كوسيلة ضغط.
إحدى الوقائع التي شكّلت نقطة تحوّل في الشكوك المحيطة بدور “أبو عمر/أبو عمار”، تتعلّق بالنائب بهية الحريري، خلال فترة وفاة زوجها. إذ يُروى أنه وردها اتصال من شخص قدّم نفسه باسم “أبو عمار”، وأوحى من خلال حديثه بأن العلاقة بينها وبين السعودية قد عادت إلى طبيعتها. هذا الاتصال، وفق ما يُتداول، منحها انطباعًا بأن مرحلة القطيعة انتهت، أو أنها في طريقها إلى الانتهاء.
غير أن ما تبيّن لاحقًا، بحسب مصادر مطّلعة، أن الموقف السعودي لم يكن قد تبدّل، وأن السعودية كانت ما تزال على قرارها بتجميد العلاقة. عند هذه النقطة، بدأ الشك الجدي: إذا لم يتغير الموقف، فمن أين جاء هذا الاتصال؟ وعلى أي أساس بُني هذا الخطاب؟ هنا تحديدًا بدأت صورة “أبو عمر/أبو عمار” تتصدّع، وبدأت الأسئلة تُطرح داخل الدوائر نفسها التي كانت قد تواصلت معه أو تعاملت على أساس نفوذه المفترض.
تكرار الوقائع المشابهة، وتناقض الرسائل المنقولة مع الواقع السياسي الفعلي، كشف أن الرجل لم يكن موفدًا، ولا مفوضًا، ولا ناطقًا باسم السعودية، بل مستثمرًا في الفراغ، وفي رغبة بعض القوى في تصديق أن باب الرياض فُتح مجددًا، حتى لو من دون إعلان. لم يحتج إلى صورة مع مسؤول سعودي، ولا إلى بيان، بل اكتفى بالادّعاء، في مشهد سياسي قابل لتصديق الادّعاء أكثر من التحقق.
أما ما يُشاع عن نهايته، وحديث الانتحار أو الاختفاء، فيبقى حتى اللحظة في خانة الروايات غير المؤكدة، في ظل غياب أي معطيات رسمية أو قضائية واضحة. لكن الثابت أن القصة سقطت دفعة واحدة، لا بفعل تحقيق، بل بفعل اصطدامها بالوقائع، وانكشاف التناقض بين الخطاب والواقع.
في المحصلة، قضية “أبو عمر/أبو عمار” لا تختصر في شخص، بل تكشف خللًا أعمق في بنية الحياة السياسية اللبنانية، حيث يمكن لشخص بلا صفة ولا تفويض أن يتحول إلى محطة عبور، فقط لأنه ادّعى أنه يتكلم باسم السعودية. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس من كان هذا الرجل، بل كيف ما زال المشهد السياسي يسمح بتكرار هذه الظاهرة، طالما أن القرار لا يُصنع في المؤسسات، بل في الظل؟