بين الاختزال والواقع: قراءة هادئة في الاختراق الإسرائيلي

يميل كثيرون، عند وقوع هزّات كبرى في سياق الصراع، إلى البحث عن تفسيرٍ سريع ومباشر، غالبًا ما يُختصر بعبارة من نوع: «انكشاف أمني» أو «ثغرة قاتلة». هذا التوصيف، رغم ما قد يحمله من جزءٍ من الحقيقة، يبقى قاصرًا عن الإحاطة بتعقيدات المشهد، بل وقد يتحوّل إلى عائقٍ أمام الفهم الصحيح لما جرى فعليًا.

إن ما حدث من اغتيالات لقادة المقاومة وتدمير للمنشآت لا يمكن اختزاله في خللٍ واحد أو خطأ تقني معزول. نحن أمام حصيلة تراكُم طويل لحرب استخبارية مركّبة، استُخدمت فيها أدوات رصد متقدّمة، وتكنولوجيا متطوّرة، وأساليب غير تقليدية، في ظلّ تحوّلٍ عميق في طبيعة الصراع نفسه. العدو لم يعد يراهن فقط على المواجهة المباشرة، بل على استباقها، وعلى كسر عناصر القوّة قبل أن تتحوّل إلى فعل ميداني.

القوة: أكثر من مخازن وعتاد
من الخطأ الاعتقاد أن تدمير إمكاناتٍ مادية، مهما كانت كبيرة، يعني بالضرورة زوال القوّة أو نهاية المسار. فالتجارب التاريخية، القريبة والبعيدة، تُظهر أن القوّة الحقيقية لا تُختزل بالمخازن ولا بالترسانة وحدها، بل تتجسّد في القدرة على التكيّف، وإعادة البناء، واستخلاص الدروس.

كم من قوى امتلكت عتادًا هائلًا وسقطت عند أول اختبار، وكم من حركاتٍ تعرّضت لضربات قاسية ثم عادت، لأنها امتلكت ما هو أبعد من السلاح: الإرادة، والمرونة، ووضوح الرؤية. لذلك، فإن قراءة الخسارة على أنها نهاية حتمية ليست فقط متسرّعة، بل تخدم الرواية التي يسعى العدو إلى ترسيخها.

بين كشف الثغرات وجلد الذات
لا شكّ أن كشف الثغرات ومعالجتها واجب لا نقاش فيه، وهو جزء أساسي من أي عملية تصحيح أو تطوير. لكن الخطورة تكمن في الانزلاق من النقد البنّاء إلى جلد الذات، أو في تبسيط هزّات كبرى وكأنها نتيجة «خطأ واحد» يمكن الإشارة إليه بإصبع الاتهام. الواقع، في مثل هذه الصراعات، أعقد وأقسى، ويحتاج إلى مقاربة شاملة لا إلى أحكام انفعالية.

العدو يراهن، إلى جانب الضربة المادية، على الضربة المعنوية: على تضخيم الخسارة، وتحويلها إلى سردية هزيمة نهائية، وعلى دفع الخصم إلى التشكيك بذاته وبقدراته. وهنا تحديدًا يكمن أحد أخطر ميادين المواجهة اليوم: معركة الوعي والتقدير العام.

من إدارة الضربة إلى إدارة الرواية
المطلوب في هذه المرحلة ليس فقط الإجابة عن سؤال: «من أين حصل الخرق؟»، بل أيضًا، وربما قبل ذلك، الإجابة عن سؤال آخر أكثر إلحاحًا: كيف نمنع العدو من احتكار تفسير ما جرى؟ وكيف نحول دون تحويل الضربة إلى رواية دائمة تُستخدم لإضعاف المعنويات وكسر الثقة؟

التاريخ علّمنا أن حروب الاستنزاف لا تُحسم بضربة واحدة، وأن من يمتلك النفس الطويل، والقدرة على امتصاص الصدمات، غالبًا ما يتعافى، ولو بعد حين. ليست كل خسارة نهاية مسار، ولا كل كشف دليل انهيار شامل.

الفارق الحقيقي بين من يُهزم ومن يتعثّر لا يكمن في حجم الخسارة وحده، بل في طريقة قراءة ما جرى. القراءة بعقل بارد، وفصل الوقائع عن الانطباعات، ورفض تسليم العدو حقّ كتابة الخلاصة النهائية، هي بحدّ ذاتها عناصر من عناصر القوّة.

في الصراعات الكبرى، لا يُقاس الثبات بلحظة، ولا تُحسم المعارك بسردية واحدة. وما بين الضربة والنتيجة، يبقى الوعي هو خطّ الدفاع الأول.

المقاومةلبنان