عن المسافة بين منطق “العدل” ومنطق “الكتائب”: عادل نصّار نموذجًا!

شهد اللبنانيون في حكومة نوّاف سلام تجربة حيّة وموثّقة بعنوان “أن تكون وزيرًا قوّاتيًا”، ونجح فيها كلّ من يوسف رجّي وجوزيف صدّي، وزيرا الخارجية والطاقة، في تقديم النموذج القواتيّ على أحسن وجه، سواء في سوء إدارة العمل الوزاريّ بحيث استحال وعد الكهرباء ٢٤/٢٤ إلى عتمة شاملة على جميع الأراضي اللبنانية أو في تجيير كلّ التجربة الوزارية لصالح الخطّ السياسي القواتيّ ما يحتّم سلسلة من “مصادفات” التماهي التام مع الخطاب “الإسرائيلي” وأحيانًا التفوّق عليه في تظهير التصهين.

ولمّا كان حزبا القوات والكتائب متنافسين عتيقين في إطار تمثيل اليمين الأكثر تطرّفًا، كان لا بدّ من دخول وزير مقرّب من الكتائب على خطّ الظهور الإعلاميّ الهادف إلى التعبير عن معاداة المقاومة، بحيث لا تنجح القوات وحدها في صناعة نجوم الخطاب المتصهين في البلد من رتبة وزراء. من هنا، كان اللقاء مع وزير العدل عادل نصّار عبر قناة الجزيرة، فرصة كتائبية ذهبية لاعتلاء خشبة مسرح العدوان على المقاومة، كي لا يقول قائل إنّ الكتائب قصّرت في الميدان، والقوات تصدّرت.

في العادة، تعتني وزارة العدل في أيّ بلد ذي سيادة بالشؤون القضائية والقانونية بالدرجة الأولى، ولا يعني ذلك ألّا يتبنى وزيرها أيّ موقف سياسيّ، ولكن يجب أن يبقى دوره السياسي كما لغته وخطابه تحت سقف العدل، بمفهومه العام، فلا يبدي تحاملًا غير مشروع على أيّ فئة من مكوّنات البلد، ولا يتجاهل القانون الدوليّ بكلّه في أيّ خطاب له أو موقف. على سبيل المثال، إن كان القانون الدوليّ قد كرّس حقّ الدفاع عن النفس ومقاومة العدوان على الأرض والناس، من المعيب أن يتفوّه بعكسه اسم يحمل صفة وزير عدل. وهذا بالضبط ما ارتكبه عادل نصار، الكتائبيّ الذي يتولّى حاليًا وزارة العدل في لبنان.

في خضمّ المشهديات الوزاراتية العجائبية التي تجري منذ شباط ٢٠٢٥ ولا سيّما في الوزارات التي على رأسها أسماء حزبية معادية بشكل صريح للأرض وأهلها، نجح يوم أمس عادل نصار في صناعة مشهدية ينافس بها زملاءه من وزراء القوّات، وبذلك لا يعاير قواتيّ كتائبيّا بأنّ “وزيرنا أقوى من وزيركن” ولا سيّما أن الإعلام لم يتداول كثيرًا احتجاج نصّار قبل أيام في مجلس الوزراء على استخدام قائد الجيش عبارة “المعيق الوحيد أمام بدء تنفيذ المرحلة الثانية من خطة حصر السلا ح هو استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان”، وطالب، بمعية وزراء القوات طبعًا، باستبدالها، وبالتالي وجب عليه أن يسجّل حضورًا إعلاميًا أجدى للتعبير عن ذاته الكتائبية.

على قناة الجزيرة، وجد نصّار فرصة قد لا تتكرّر للإدلاء بدلوه ضدّ المقاومة، فكثّف الموقف المعادي بقدر ما استطاع، ولكن لم ينجح في الخروج عن “الكليشيهات” التي سبقه إلى استخدامها وزراء القوات وأبواقها الإعلامية. “سلاح المقاومة غير قادر على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية”، إن سلّمنا جدلًا بهذه المقولة التي عمليًا ينفيها العدوّ نفسه عبر الاصرار الأميركي المستميت على نزع سلاح حزب الله، ما البديل الذي يمكن بحسب الوزير الكتائبيّ أن يردع الاعتداءات؟: “الدبلوماسية”.
بدا أنّ نصّار لم يتمكّن من متابعة الأخبار في البلد منذ عام ونيّف، ولم يرَ عجز “الدبلوماسية” وفشلها الذريع في منع ولو اعتداء واحد، بل ولم يرَ كيف تهزأ “إسرائيل” بكلّ الجهد الدبلوماسيّ الساعي لرضاها، فتطلب الكشف عن مكان محدّد عبر لجنة “الميكانيزم” ثمّ تقصفه رغم الاستجابة الفورية ورغم ثبوت كذب ادعاءاتها حول وجود سلاح فيه. وما الطريقة الأخرى التي يقترحها نصّار في مواجهة الاعتداءات؟ إنها “فرض السيادة اللبنانية على كافة الأراضي اللبنانية”. يغفل نصّار عن حقيقة بسيطة تقول إنّ الاعتداء هو ما ينتهك السيادة، وإنّ السيادة تعني الدفاع عن الأرض، وبالتالي مقاومة المعتدي، ومحاولة ردعه.

في القانون الدولي، الذي من المفترض أنّه ميدان تخصّصي بالنسبة لوزير العدل، تُعرّف “السيادة” بأنّها: “السلطة العليا والمطلقة للدولة على إقليمها وشعبها، وتعني استقلالها التام عن أي سلطة خارجية وحقها في إدارة شؤونها بحريّة”. ومن هنا “فرض السيادة” يكون بمنع أيّ كيان خارجيّ من السيطرة أو التدخّل في النطاق الجغرافيّ الواقع تحت سلطة “الدولة”. وبالتالي، حركة المبعوثين الأميركيين وغيرهم هي الانتهاك السياسيّ المكمّل للانتهاك العسكري والأمني الذي تنفذه “إسرائيل”. وأن يُسقط “وزير عدل” هذه الحقائق الثابتة لصالح إعلاء موقفه السياسيّ وخدمة انتمائه الكتائبيّ، فهي مسألة مهينة لا للأرض وأهلها وحسب، بل لصفته وشهاداته ومنطق القانون نفسه.

ثمّ بأريحية وثقة يقول: “نزع سلاح الحزب قرار لبناني داخلي من أجل بناء الدولة اللبنانية”. بالطبع لم يستفتِ وزير العدل اللبنانيين حول القرار ولا انتبه للجهود الأميركية المباشرة والمعلنة في صناعة هذا القرار، بحيث لم يعد يخفى على أحد أنّه قرار أميركي-إسرائيلي، اتخذ شكلًا سياسيًا وحكوميًا بعد أن عجزت الآلة العسكرية وأطنان المتفجرات عن تحويله إلى واقع. ولعلّ عذر نصّار في هذا المجال بالذات هو اعتقاده ككتائبيّ أنّ “اللبنانيين” هم حصرًا الناخبون الكتائبيون والقواتيون، وبعض من يأتمرون مثلهم بأمر موفد أو سفارة، وأن مئات الآلاف من الناس من مختلف الطوائف والأحزاب اللبنانية هم مجرّد أعداد لا وزن لها ولا قيمة، لمجرّد كونها تعادي “إسرائيل” وتقاوم المشروع الأميركي في المنطقة. أن تكون لبنانيًا، في منطق نصار، يعني أن تتماهى مع القرار الأميركي، وتتبناه، وتدّعي أبوّته وتنسجم مع ادعائك هذا حدّ القول بدون تفكير إن القرار، الذي يتباهى بصناعته الأميركي وكلّ موفديه، هو قرار لبنانيّ!

لم تحقّق مقابلة وزير العدل عادل نصار على قناة الجزيرة مشاهدات عالية، وربّما يتسبّب الأمر بضيق كتائبي في مواجهة النجومية الصهيوأميركية التي يتمتّع بها الناطقون القواتيون. ولكنّ ذلك لا ينبغي أن يدفع الكتائبيين للاستسلام، فالمرحلة تتطلّب تضافر كلّ الجهود الناطقة باسم الأميركيين في البلد، ولا شكّ أنّ المنافسة شرسة فيما بينهم، وعليه، يجب على نصّار، ما دام اختار اللغة الكتائبية وقدّمها على لغة “العامل في مجال القانون” أن يواصل محاولاته مع سائر فتيان الكتائب، لعلّهم ينجحون في نيل شهادة لهم عند أيّ عامل في عوكر!

القوات اللبنانيةالكتائبعادل نصاروزير العدل