يوسف رجّي: التطرّف إلى حدّ الاضطراب

قبل تسميته وزيرًا للخارجيّة، لم يكن اسم القوّاتي العامل في السلك الدبلوماسي يوسف رجّي معروفًا إلّا في الأروقة التي يجري فيها التهامس بفضائح ترد فيها أسماء دبلوماسيين أو شخصيّات عامّة. ومن هنا كان اقتران اسمه بصفة “المتحرّش” في كلّ حديث عن فترة عمله سفيرًا للبنان في المغرب. وبما أنّ “المتحرّش” عادة يكون مضطربًا، فقد سهّل انكشاف الفضيحة على اللبنانيين استيعاب الاضطرابات الظاهرة في تصريحات الوزير “التيس” كما يسمّي نفسه.

مع إعلان أسماء الوزراء في حكومة نواف سلام في شباط ٢٠٢٥، وعلى الرغم من المعرفة المسبقة بأنّ حزب القوّات أصرّ على أن يكون وزير الخارجية من حصّته، لم يتوقّع أحد أنه يمكن لعامل في السلك الدبلوماسي أن يعجز عن إبداء أيّ “دبلوماسية” في التعبير عن نفسه. والدبلوماسية هنا تعني بالحدّ الأدنى الالتزام باللّياقات وبالبروتوكولات المعروفة في التواصل والتخاطب والتعبير. منذ دخوله مبنى الوزارة بصفة “وزير”، لم يكفّ عن التعبير بشكل غير متزن في كلّ مرّة ينطق بها، أو يظهر، من الاستعراض الهوليوودي الركيك الذي حاول فيه الظهور بمظهر “رامبو” مقتحمًا مكاتب وزارته، صارخًا في وجه موظّف ومهينًا آخر، إلى آخر تصريحاته في لقائه مع قناة الجزيرة، وما بينهما. وبمعزل عن أيّ موقف سياسيّ، لا يمكن لمشاهد تصنيف مسار رجّي إلّا تحت عنوان الاضطرابات التي شاء الظرف السياسيّ الدقيق أن تتولّى وزارة بأهميّة ودقّة “وزارة الخارجية”. ولعل كثرة النوائب التي فرضها الظرف في هذه المرحلة تخفّف من ثقل نائبة وجود مضطرب على رأس الخارجية.

أدخل رجّي الانبطاحية تحت مسمّى “السيادة” كنمط عمل لوزارته، إذ أتقن الخضوع التام للأميركيين. بدون أيّ ستار ولو على سبيل حفظ الكرامات الشخصية، تأتي الموفدة الأميركية وتستدعيه بدلًا من زيارته كما توجب الأصول الدبلوماسية فيمتثل أمامها صاغرًا جاهزًا لتنفيذ الأوامر وبدون نقاش، ما يتنافى مع توصيفه لنفسه بالتيس الذي ينبغي أن يكون عنيدًا وصعب المراس. الموفدة نفسها تسأله في زيارة تالية عمّا إذا كان سيلتقي بنظيره الإيراني، فيجيب بكل فخر أن “لا، لأن إيران تتدخل في الشؤون اللبنانية”، ما استدعى ضحك كلّ من سمع الخبر في كلّ جهات الأرض. أقلّه وجب على الوزير أن يتذاكى قليلًا في إجابته الصاغرة، كأن يقول مثلًا أنه لن يلتقيه لانشغاله بتوثيق وكتابة نظريته الدبلوماسية: البكاء!

توالت ارتكابات رجّي، حتى أصبح له في كل بيت في لبنان ذكرى وموقف بلغ فيه شرّ البلية ما يتجاوز الضحك، ويصل لحد السخرية. ولكن، هل يخجله الأمر؟ أبدًا. بل على العكس، ما دام يستجلب له ابتسامة يستجديها من معلّمه السّاكن في دويلة معراب أو من حارس بوابة في عوكر، فأهلًا بكلّ سخرية وخزي! ولأجل تحقيق هذا الهدف، بسمة الرضا لا غيرها، لم يخجل رجّي من التماهي والتطابق مع الخطاب الصهيوني المعلن: مواقفه وتصريحاته تمنح “إسرائيل” الذرائع وتبرّر اعتداءاتها الوحشية، بالتوازي مع غياب الشكاوى اللبنانية إلى مجلس الأمن والتي رغم لا جدواها ينبغي أن تشكّل جزءًا أساسيًا من الأداء الوظيفي لوزارة الخارجية. فرجّي محاصر في ملف محدّد: “مناقرة” كلّ ما هو إيراني، وهو بذلك يمارس ما جاء ليمارسه كقواتيّ يتحرّك بأوامر معلّمه، الذي بدوره يتحرّك بتعليمات أصغر موظف في سفارة واشنطن.

الكيد الدبلوماسي إزاء الخارجية الإيرانية وسفارة طهران في بيروت، رغم أنّهما تلتزمان أدّق البروتوكولات والأصول في التعامل، ورغم أنّهما تتجاهلان التطاول المستمرّ من جانب الوزير القواتي وفريقه، هو المهمة الوحيدة التي فرّغ رجّي نفسه لأدائها. والطامة الكبرى أنّه يؤديها وفق منظومة اضطراباته، ما يتنافى حتى مع أصول الخصومة والعداوة، وبشكل جعله يتعارض لا مع حلفاء فريقه السياسي الذين يحاولون ممارسة الخصومة بشكل أرقى وأكثر ذكاءً، بل حتى مع التقارير الدولية الموثّقة والتي تؤكّد أن لبنان التزم كافة نقاط إعلان وقف إطلاق النار، وأنّ “إسرائيل” تواصل عدوانها. وبذلك تفوّق حتى على وزير الخارجية الصهيوني نفسه، الذي لا ينكر قيام كيانه بالاعتداء! وحده رجّي، وبناء على أوامر وتعليمات تدفعه إلى النطق بما لا يقبله عاقل، ويصرّ على أن العدوّ إيران، وأن مكمن كلّ الخطر هو في المقاومة. وإن كان ثمّة آخرون يتحدثون بالمنطق نفسه، إلّا أنّه يُسجّل لهم أنّهم يفعلون ذلك بتوازن أكثر. وحده رجّي، وظّف اضطراباته الشخصية في خدمة عمله، ومارس كلّ ما تشرّبه من الإلغائية والتطرّف القواتي في كلّ كلام أو موقف يصدر عنده، لينال بذلك بعد لقبي “المتحرّش” و”التيس”، لقب المضطرب!

ايرانلبنانوزارة الخارجيةيوسف رجي