الغرب بين الإرث الحضاري والانحطاط القيمي

يعاني الغرب الأوروبي والأميركي اليوم من أزمة إنسانية وأخلاقية عميقة، تتجلّى في انفصاله المتزايد عن القيم التي طالما ادّعى تمثيلها والدفاع عنها. فخطاب حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، لم يعد سوى واجهة لغوية تُستخدم انتقائيًا، فيما تُمارَس على الأرض سياسات قائمة على القوّة، والهيمنة، وتبرير العنف، متى اقتضت المصلحة السياسية والاقتصادية ذلك.

لقد بلغ هذا التناقض ذروته في الدعم غير المشروط الذي تقدّمه القوى الغربية لـ”إسرائيل”، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، رغم ما يترافق مع هذا الدعم من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، ومن تكريس لمنظومة استعمارية-عسكرية ذات طابع إقصائي وعنصري. هذا الدعم لا ينبع من التزام أخلاقي أو إنساني، بل من شبكة معقّدة من المصالح، والأساطير السياسية، وعقد الذنب التاريخية، والدعاية الأيديولوجية التي استحكمت في الوعي الغربي الحديث.

إن الغرب، في هذا السياق، يبدو عاجزًا حتى اليوم عن فهم الطبيعة البنيوية للمشروع الصهيوني بوصفه مشروعًا استيطانيًا-عسكريًا، لا تعبيرًا عن دين أو ثقافة، بل عن أيديولوجيا قومية حديثة استثمرت المظلومية التاريخية لتبرير العنف المستمر. هذا العمى الفكري لا يعكس جهلًا معرفيًا بقدر ما يعكس إرادة سياسية واعية في تجاهل الحقائق، طالما أن تجاهلها يخدم توازنات القوة العالمية.

والمفارقة التاريخية أن الحضارات القديمة في سوريا ومصر وبلاد ما بين النهرين كانت من بين الركائز الأساسية التي ساهمت في إخراج أوروبا من بربريتها الأولى، سواء عبر الإرث المعرفي، أو الفلسفي، أو القانوني. كما أن الرسالتين المسيحية والإسلامية لعبتا دورًا محوريًا في تحرير الإنسان الأوروبي من الوثنية القاسية، وفي إدخال مفاهيم الرحمة، والكرامة، والمساواة الأخلاقية إلى بنيته الفكرية.

إلا أن هذا الإرث الإنساني العظيم لم ينجح في إنجاز تحوّل جذري في بنية الإنسان الغربي الحديث. فقد فشلت رسالة القيم، لا في ذاتها، بل في قدرتها على اختراق المنظومة المادية-البراغماتية التي أعادت إنتاج الإنسان بوصفه أداة، لا غاية، وقيمة اقتصادية، لا كائنًا أخلاقيًا. وهكذا بقي السموّ الروحي والأخلاقي الذي بشّرت به المسيحية والإسلام معطّلًا أمام صعود الرأسمالية المتوحشة، والعقل الأداتي، والاستعمار الجديد.

إن أزمة الغرب اليوم ليست أزمة معرفة، بل أزمة ضمير، وليست أزمة حضارة ماضية، بل أزمة إنسان حاضر لم يستطع الارتقاء إلى مستوى المبادئ التي صاغها نظريًا، ولم ينجح في التوفيق بين قوته التقنية وضعفه الأخلاقي. ومن هنا، فإن استعادة المعنى الإنساني للحداثة لا يمكن أن تتم عبر المزيد من القوّة، بل عبر مراجعة جذرية للأسس القيمية التي تحكم السياسة، والاقتصاد، والعلاقة مع الآخر.