في بلدٍ ينام على التحوّلات ويصحو على الرسائل المشفرة، برز في الساعات الأخيرة خلافٌ دبلوماسي واضح بين بيروت وطهران، بعد أن رفض وزير الخارجية اللبناني تلبية دعوة رسمية إلى طهران، مقترحًا أن تُعقد أي محادثات بين الجانبين في بلدٍ ثالث. خطوةٌ فسّرها البعض على أنها محاولة لإعادة تأكيد “سيادة القرار اللبناني”، فيما قرأها آخرون على أنها مجرّد انعكاس لضغوط دولية تُمارس على لبنان في لحظة سياسية حسّاسة.
اللافت أنّ هذا الموقف جاء في وقت يتكثّف فيه الحديث عن “تهدئة قبل نهاية السنة”، تهدئةٌ تبدو أقرب إلى حاجة إقليمية ودولية منها إلى قرار لبناني خالص. المشهد الداخلي يزدحم بالتصريحات والمواقف التي تُشي بأنّ ثمة محاولة لرسم سقف سياسي جديد، خصوصًا في ظلّ ضغوط متنامية تتعلّق بملف السلاح ودور الدولة ومساحات النفوذ.
في الكواليس، تبدو الصورة أوضح: ثمّة أطرافٌ خارجية تحاول إدارة شكل التوازن اللبناني بما يتوافق مع حساباتها. تريد “الدولة القوية”، ولكن من دون عناصر القوة التي حمت لبنان لسنوات. تريد التهدئة، ولكن من دون الاعتراف بثمنها الحقيقي على الأرض. تريد الحوار، ولكن بشرط أن يجري في ملعب غير الملعب الذي يعرفه البلد.
أما في العلن، فيبدو الموقف اللبناني الرسمي مترددًا، يبحث عن صيغة لا تُغضب أحدًا ولا تُلزم أحدًا. رفض الزيارة إلى طهران يجيء كخطوة محسوبة، لا تقطع الخط مع الشرق ولا ترضي الغرب بالكامل، بل تضع لبنان في هامش المناورة الذي يظنّ أنه ما زال يملكه.
وبين الدعوة إلى التهدئة والضغط نحو إعادة رسم خريطة القوة، يقف لبنان على أرض رخوة. الحديث عن “نهاية سنة هادئة” لا يلغي حقيقة أنّ البلاد تعيش في قلب تجاذب كبير، وأن كل مفردة تُقال في السياسة تحمل خلفها حسابات إقليمية تتجاوز بكثير قدرة المؤسسات اللبنانية على ضبطها.
في النهاية، يظهر المشهد اللبناني كما لو أنّه اختبارٌ جديد: هل يستطيع الحفاظ على خيوط سيادته وسط العواصف؟ وهل التهدئة المطلوبة هي فرصة لالتقاط الأنفاس، أم مقدمة لمرحلة أشدّ صعوبة يُعاد فيها توزيع الأوراق والسلاح والنفوذ؟
ووسط كل هذه الأسئلة، يبقى الحدث الحقيقي ليس في الزيارات الملغاة ولا في التصريحات المترددة، بل في ما يُكتب بين السطور: لبنان يُدفع إلى طاولة مفاوضات جديدة، شاء أم أبى… والسؤال هو: بأي شروط، وبأي ثمن، ولصالح من؟