أعاد تصريح رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون، المتعلّق بضرورة انخراط لبنان في مسار التسويات الإقليمية بما يشمل إمكان التفاوض مع “إسرائيل”، فتح الباب واسعًا أمام سجال داخلي لم يكن يومًا مؤجلًا، لكنّه ظهر هذه المرة وسط ظرف إقليمي محتدم، ومعادلات ميدانية تتغيّر بسرعة على مستوى المنطقة. وقد بدا واضحًا أن الكلام لم يكن مجرّد رأي عابر، بل طرح سؤالًا جوهريًا حول ماهية موقع لبنان في المرحلة المقبلة: هل يدخل في سياق الترتيبات الجديدة أم يتمسّك بموقعه التقليدي ضمن جبهة الصراع؟
من الناحية القانونية، لا يظهر أن الدستور اللبناني يتضمن أي مادة تحظر على الدولة الدخول في مفاوضات مع “إسرائيل”. فالمنع الواضح الموجود في القوانين اللبنانية يطال الأفراد بموجب قانون المقاطعة، ولا يشمل السلطة السياسية حين تقرر، عبر مؤسساتها الدستورية، خوض مفاوضات مرتبطة بمصالح وطنية عليا. وهذا يعني أن الإطار القانوني لا يشكّل عقبة، ما دام القرار يصدر عن المرجعيات الدستورية ويُقرّ في المؤسسات وفق الأصول. وعلى هذا الأساس، فإن النقاش الحقيقي يتجاوز حدود النصوص، ليتموضع في قلب الصراع السياسي والسيادي في البلاد.
في الداخل اللبناني، لم يمرّ تصريح الرئيس بهدوء. فثمة من رأى فيه خروجًا عن الثوابت الوطنية وفتحًا لباب لا ينبغي الاقتراب منه ما دام الاحتلال لا يزال قائمًا في بعض المناطق اللبنانية، وما دام العدوّ يمارس اعتداءاته الجوية والبرية والبحرية بشكل يكاد يكون يوميًا. بالنسبة لهؤلاء، أي حديث عن تفاوض -مباشر أو غير مباشر- قبل تثبيت معادلة الردع التي أرستها المقاومة خلال السنوات الماضية، يُعتبر خطوة غير واقعية وتتناقض مع طبيعة الصراع ومع موقع لبنان في محور المواجهة الأوسع.
في المقابل، ظهرت مقاربة أخرى تعتبر أن المنطقة تتّجه نحو مسار تسويات، وأن لبنان، بوزنه السياسي والاقتصادي ووضعه الداخلي الهش، قد يجد نفسه مضطرًا للانخراط في هذا المسار عاجلًا أو آجلًا. أصحاب هذا الرأي يقرأون التحولات الإقليمية من زاوية التبدلات الدولية، ويرون أن التفاوض، مهما كان شكله، قد يصبح أمرًا لا مفر منه، ليس عن رغبة بل نتيجة حتمية لانزلاق المنطقة برمتها نحو ترتيبات جديدة.
ووسط هذين الاتّجاهين، برز رأي ثالث يستعيد تجربة الترسيم البحري، التي جرت عبر مفاوضات غير مباشرة، وبرعاية وسيط دولي، من دون تطبيع ومن دون أي شكل من أشكال الاعتراف السياسي. هذا الرأي يرى أن لبنان قادر على سلوك المسار نفسه إذا اضطرّ إلى ذلك، وأن التفاوض التقني أو غير المباشر لا يلغي طبيعة الصراع ولا يبدّل في موقع لبنان الإستراتيجي، بل يمكن أن يتيح له إدارة بعض الملفات العالقة من دون أي أثمان سياسية.
لكن القراءة الأقرب إلى مقاربة المقاومة تنطلق من مقولة أساسية مفادها أن التفاوض، في ذاته، ليس محرّمًا ولا مرفوضًا نظريًا، بل إن التوقيت والسياق هما المحدّدان لجدواه أو خطورته. فالمقاومة سبق أن وافقت على شكل من أشكال التفاوض غير المباشر حين كان الهدف تثبيت الحقوق اللبنانية في البحر، وحين كانت موازين القوّة تمكّن لبنان من دخول التفاوض من موقع ندّي لا من موقع خاضع للضغوط. أما في المرحلة الحالية، فالمنطقة تشهد واحدة من أعنف الموجات التصعيدية، من غزّة إلى جنوب لبنان، مرورًا بجبهات أخرى مرتبطة بمحور المقاومة. وهذا يعني أن طرح التفاوض الآن يبدو مفصولًا عن منطق الميدان ولا يعكس التوازنات الفعلية القائمة.
من هذا المنطلق، يصبح النقاش حول التفاوض مرتبطًا بمعادلة بسيطة: لا تفاوض من موقع ضعف، ولا مسار تسوية يمكن أن يستقيم ما لم يكن لبنان محصّنًا بوحدة داخلية، ومسنودًا بقوة ردع حقيقية أثبتت خلال السنوات الماضية أنها الحاجز الوحيد أمام الاعتداءات، والضمانة الوحيدة لحماية الحقوق والسيادة. وفي غياب هذه الشروط، تبقى أي محاولة للحديث عن تسويات أو انخراط في مسارات إقليمية أشبه بترف سياسي لا يستند إلى وقائع، بل يغامر بفتح نقاش في توقيت غير مناسب، قد يحمّل البلاد أثمانًا سياسية لا قدرة لها على تحملها.
وهكذا، يتضح أن القضية ليست مسألة نص قانوني ولا جدلًا تقنيًا حول الصلاحيات، بل هي سؤال إستراتيجي حول المستقبل: هل يدخل لبنان التسويات من موقع الضعف، أم ينتظر إلى أن تفرض موازين القوّة نفسها وتسمح له بالتفاوض -إن حصل- من موقع يحفظ سيادته، ويكرّس معادلة الصراع التي أثبتت حتّى الآن أنها الأكثر واقعية في حماية البلد؟