يبدو أن المشهد في لبنان وسوريا يدخل مرحلة جديدة من إعادة تركيب خرائط النفوذ. غير أنّ ما بدا وكأنه “طبخة ناضجة” ما يزال يفتقر إلى الأساسات الحقيقية التي تمنحه ثباتًا واستمرارية. فالتفاهمات التي تُطرح حول الجنوب اللبناني، وتلك التي تتناول ترتيبات الحدود ووقف التصعيد، ليست سوى تسويات فوقية مؤقتة، بينما الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلدين هشّ ومفتوح على تدخلات قوى خارجية تنتظر اللحظة المناسبة لتثبيت حضورها. وفي قلب هذا الفراغ، يبرز لاعب واحد لم يقل كلمته بعد، رغم أنه حاضر في الخلفية بثبات: روسيا.
التحركات الأميركية المتقدمة في آسيا الوسطى، ومحاولات توسيع النفوذ عبر تركيا كوكالة سياسية وأمنية واقتصادية، دفعت موسكو إلى البحث عن ساحات ردّ لا تكون بالضرورة في المنطقة نفسها، بل في المساحات التي تؤلم واشنطن وحلف شمال الأطلسي أينما كانت. وهكذا يتقدّم شرق المتوسط بوصفه ساحة الردّ الأكثر فعالية، من الساحل السوري إلى الامتداد اللبناني، حيث تلتقي الجغرافيا الحساسة مع هشاشة الوضع، ومع التاريخ الطويل لصراع البحار الذي أعاد نفسه اليوم بصيغ جديدة.
روسيا، التي ثبّتت قدمها في سوريا عبر حضور عسكري معلن وموقع بحري استراتيجي، تدرك أنّ تثبيت وزنها في الإقليم لم يعد ممكناً عبر دمشق وحدها. فالنفوذ لا يكتمل إلا بنقطة ارتكاز ثانية تسمح بالتحكم بالمجال البحري والبري معاً، وتوفر نافذة سياسية وثقافية إلى عمق المشرق. وهنا يصبح لبنان جزءًا من الصورة الكبرى: بلد يتقاطع فيه النفوذ الأميركي مع الهواجس الأوروبية، وتتشابك داخله الأدوار الإقليمية، فيتحول إلى نقطة جذب لأي قوة كبرى تريد مكاناً في معادلة ما بعد الحرب في المشرق.
الحضور الروسي المحتمل في لبنان لا يعني قواعد عسكرية علنية بالضرورة، لكنه لا يُختزل أيضاً بالبعد الثقافي أو السياسي. فموسكو تعرف أنّ ميزان القوى في شرق المتوسط لا يُدار بالكلمات وحدها، وأن كل من ينازع النفوذ الأميركي أو التركي يحتاج إلى حضور أمني-عسكري على نحو من الأنحاء، ولو على شكل ارتباطات عميقة مع مؤسسات سياسية وأمنية محلية، أو تموضع بسيط في نقاط بحرية وبرية تحت سقف الشرعية اللبنانية. وفي هذا السياق يمكن فهم الرسالة التي وجهها الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئيس جوزيف عون، وما حملته من تأكيد على دعم سيادة لبنان ووحدة أراضيه ورفض أي تدخل خارجي. فهذه العبارة التقليدية ليست بروتوكولاً، بل إشارة ضمنية إلى نية روسية في تثبيت موقع ضمن توازن القوى الجديد، عبر تأكيد أنّ موسكو ليست لاعبًا هامشيًا، وأنّ نفوذها في سوريا لا يمكن فصله عن الجوار اللبناني.
المعادلات الإقليمية تتجه نحو مرحلة لا تكفي فيها التسويات بين واشنطن وطهران أو بين القاهرة والرياض وحدها؛ ثمة فراغ في البحر وفي السياسة وفي توازن الطوائف والصيغ والدساتير. وفي هذا الفراغ تحديدًا تبحث روسيا عن موضع قدم، لا لتحلّ محل أحد، بل لتكمل ما تعتبره معركتها المفتوحة مع الولايات المتحدة من آسيا إلى أوروبا الشرقية وصولاً إلى المتوسط. لبنان بالنسبة لها ليس جائزة، بل حلقة في سلسلة جغرافية-استراتيجية تُستخدم للضغط ولتثبيت حضور طويل الأمد، في إطار صراع دولي بدأ يتحرك من الأطراف نحو المركز.
هكذا، يتّضح أن الطبخة الإقليمية التي طُبخت على نار أميركية-عربية-إيرانية لم تكتمل بعد، وأن المشهد المشرقي ينتظر بصمة روسية قد تعيد رسم خطوط النفوذ على الساحل السوري واللبناني معاً. فالتسويات القائمة تفتقر إلى أساسات صلبة، واللحظة تبدو مهيأة لدخول لاعب يريد أن يردّ على خصومه في آسيا من بوابة المتوسط. وما بين الجغرافيا السياسية الراهنة والرسائل التي بدأت تصل من موسكو، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة يكتمل فيها المشهد فقط عندما يحضر “الأحمر” بثقله، وبحضوره الدبلوماسي والعسكري معاً، في النقطة التي طالما كانت مرآة الصراع الدولي: لبنان.