منذ وقف الأعمال الحربية في نهاية تشرين الثاني 2024 عقب الاتفاق على تطبيق القرار 1701، يعيش الجنوب اللبناني تحت هدنة هشة تُخرق يوميًا حيث يمتزج صوت الأذان بأصداء القصف، غارات إسرائيلية متفرقة، طائرات مسيّرة تجوب السماء تبحث عن أهداف لاقتناصها، استهدافات تطال قرى ومنازل ومواقع مدنية، شهداء وجرحى وعائلات مكلومة وثكلى، وبين كل استهداف وآخر يكاد سؤال واحدٌ يفرض نفسه بقوة الواقع ويتردّد صداه في بيروت والجنوب والبقاعِ معًا: ماذا لو طفح كيل المقاومة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة؟ وماذا لو قررت أن تكسر هذا الصمت، وتعيد رسم معادلة الردع بيدها لا بوساطة الآخرين؟
لا توجد تعريفات موحّدة لما يطلق عليه تسمية “طفح الكيل”، فهي مزيج من عوامل عدَّة منها تزايد الخسائر المدنية بسبب المجازر المرتكبة، استهداف قادة ميدانيين، غموض حول مصير الأسرى والمفقودين، تعطيل بل عرقلة إعادة الإعمار وتدمير كل المسائل اللوجستية المتعلقة به من آليات ومعدات ثقيلة وبنى تحتية حيوية، فشل الوساطات الدبلوماسية وتراخي بل تواطؤ الجهات الضامنة لوقف العدوان، مع إدراك الطرف المتألم المعتدى عليه أن الكلفة والاستنزاف اليومي المستمر لا يحققان أهدافه السياسية والأمنية في الاستقرار والهدوء والأمان، وعند تراكم هذه العوامل يتغير منطق القرار من “إدارة الأزمة” إلى البحث عن “كسر معادلة” لردع العدو واستعادة التوازن والقدرة على التأثير في مجريات الأحداث والوقائع.
منذ وقف العدوان العام 2024 يعيش الجنوب اللبناني على خط النار؛ التزمت المقاومة بسياسة «الصبر الاستراتيجي» لإعطاء فرصة للوساطات الدولية ولدبلوماسية الحكومة اللبنانية وعلاقاتها الخارجية لتثبيت قواعد الاشتباك التي خرقها وهشمها العدوان يوميًا مما جعل الحديث عن هذا “الصبر” وجدواه سؤالًا مشروعًا في الأوساط السياسية والإعلامية وحتى داخل البيئة الحاضنة للمقاومة ولدى جمهورها، لكن على ما يبدو هذا الصبر مهما طال ليس بلا حدود وفق تصريحات قادة المقاومة، بل هو على بعدِ خطوة من ضغطة زناد لا أكثر.
عندما تتحوّل الخروقات إلى نمطٍ يومي (وفق مصادر الجيش اللبناني فاق عدد الخروقات الإسرائيلية 4500 خرق)، وحين يُستهدف المدنيون والمناطق الآمنة (قارب عدد الشهداء منهم منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني 2024 وحتى اليوم الـ 300 شهيد ومئات من الجرحى والمعوقين)، حينها يصبح الردّ خيارًا دفاعيًا لا تصعيديًا، والذي لن يُتخذ فقط نتيجة لغارة أو اغتيال، بل حين تتحول الاعتداءات إلى نمطٍ تصاعدي في محاولة لتجاوز قواعد المواجهة ووضع لبنان تحت مقصلة القتل والتدمير اليومي والتهجير والإخضاع يلامس العدوان المفتوح بغرض فرض واقع جديد وشروط استسلام مذلَّة، في تلك اللحظة يصبح “السكوت” تراجعًا عن مبدأ الردع الذي حمى لبنان منذ حرب تموز 2006 والذي فرض وقف النار، والعدوان في 2024، ويغدو حينها الردّ ضرورة لإعادة التوازن والردع وتثبيت قواعد الاشتباك، لا مغامرة عسكرية غير محسوبة كما يحلو للبعض أن يسمّيها.
الوقائع على الأرض تُظهر أن إسرائيل تتصرف بثقة زائدة فيها تغوّل وفائضٌ في القوَّة وشهية مفتوحة على القتل والإجرام، معتبرة أن انشغال لبنان بأزماته الداخلية وضعف حكومته يمنحها هامشًا أوسع للتحرّك. لكن قراءة التاريخ القريب تقول إنه في كل مرة أساءت فيها تل أبيب تقدير حدود صبر المقاومة وجدت نفسها أمام معادلة جديدة تُعيد التوازن بالقوة، والتجربة أكَّدت مرارًا أن جبهة الشمال ومستوطناته والوسط ومدنه ومنشآته الحيوية والعسكرية والأمنية والإستراتيجية هي أكثر هشاشة مما تبدو عليه.
تتصاعد لغة التهديد والوعيد من جهات عدة وبلغات متعدِّدة، لكن إذا قررت المقاومة مغادرة مربع الصبر فنحنُ سنكون أمام سيناريوهاتٍ مختلفة بتقديري بدأت تُوضعُ على الطاولة، وأنَّ الردّ المحتمل لن يكون عشوائيًا بل محكومًا بحسابات دقيقة، ومنها ابتداءً ردٌّ محدود دون توسيع المواجهة باستهداف مراكز الاحتلال فوق الأرض اللبنانية لتأكيد الحق المشروع في المقاومة ( من 5 – 7 نقاط محتلة) والتي تقدَّم وسيطر عليها بعد قرار وقف إطلاق النار والتزام المقاومة فيه، وإرسال رسالة واضحة لمن يعنيه الأمر من الدول المعنية بضمان لجم العدو الإسرائيلي وفق القرار الدولي 1701، هذا السيناريو يحافظ على «المعادلة القائمة» ويُبقي الباب مفتوحًا أمام الوساطات، أو سيكون ردًّا متدرّجًا مدروسًا يتخلله ضرب أهدافٍ أعمق داخل فلسطين المحتلة، تهدف إلى تعطيل أمن الجليل في الشمال ورفع كلفة العدوان في إطار ردعٍ دون كسر التهدئة كليًا وإرباك القيادة الإسرائيلية سياسيًا وكسر الإستراتيجية التي تعتمدها على الإفلات النسبي من العقاب والتكلفة ورفع ثمن أي اعتداء مستقبلي وإجبارها على إعادة حساباتها جيدًا، أو ذهاب الأمور نحو الانفجار الكبير وهو السيناريو الأكثر خطورة، حيث تتحول الجبهة الشمالية إلى مسرح مواجهة شاملة تمتد من البحر إلى الجليل الأعلى وصولًا إلى عمق الكيان قد تجر المنطقة بأسرها إلى الحرب، حرب مفتوحة تعيد الأمور إلى المربَّعِ الأول لتفرض المقاومة توازنًا في قواعد الاشتباك وردعًا للعدو وأمنًا واستقرارًا لأهلنا في الجنوب.
الحديث عن “إسقاط أمن الشمال” لا يعني احتلالًا، بل تصدُّع وانهيار الأمن النفسي-الاجتماعي لدى المستوطنين والإحساس بضعف القدرة على الحماية والشعور بالأمان، فمجرد شلِّ الحياة اليومية مجددًا هناك، تعطيل الكهرباء، إقفال المدارس (إن فتحت) في المستوطنات والتي أساسًا مازالت تسير بقدمٍ عرجاء منذ وقف إطلاق النار وتعيش حالة القلق والترقب اليومي وبطئًا في إعادة “تعافيها”، والعودة مجددًا لإخلاء المستوطنات وإجبار عشرات الآلاف على النزوح تكرارًا للعيش في ظروفٍ صعبة ومهينة خبروها في مرحلة التهجير السابق إذلالًا وإهمالًا مارسته بحقهم حكومة متطرفة يمينية عنصرية حاقدة، تفتقد لكل حسٍّ إنسانيٍّ وأخلاقي حتى تجاه أبناء جلدتها، كل هذا وأكثر كفيل بإسقاط “الأمن بمعناه الإستراتيجي” وإعادة إحداث اهتزازات سياسية داخل الكيان الغاصب والتي ما زالت تردداتها حتى الآن مع تأثير الضغط الشعبي الذي قد يعيد تشكيل معادلات صنع القرار فيه، فالمجتمع الصهيوني الذي عاش طويلًا على وهم الحصانة الأمنية قد يكتشف أن جبهته الشمالية والجليل وصولًا إلى وسط الكيان رهينة صليةٍ مباركة وأن هذه الجبهة باتت الأكثر هشاشة في تاريخه، مما يحوّل تأثيرات “الحرب النفسية” إلى سلاح لا يقلّ تأثيرًا عن الصواريخ.
حتى الآن يدرك الجميع أن أي حرب ستقع ليست في مصلحة أحد، ولكن، واهمٌ من يعتقد أن الوساطات الدولية تمسكُ بخيوط التهدئة وإن كانت (موجودة فعلًا) فهي خيوط واهية، لأنَّ أيَّ خطأ ميداني أحمق أو فعلٍ إجرامي واسع يؤدّي إلى سقوط عدد كبير من المدنيين اللبنانيين الآمنين قد يُشعل مواجهة لا يمكن ضبطها، لن يكون الجنوب اللبناني ميدانها الوحيد ولن ينام أهل الجليل (على الأقل) باطمئنان، لذلك تبدو المنطقة اليوم أمام معادلة دقيقة: إما لجم العدوان وشهيته المفتوحة على القتل والتدمير وإلا فإنَّ ضبط النفس في مهبِّ الريح والعودة إلى زمن النار المفتوحة بات قاب قوسين أو أدنى لا أكثر.
إسرائيل منهكة من الحروب التي خاضتها مؤخرًا وخاصَّةً أنَّها واجهت شبكة من الأزمات المترابطة مع تعدد الجبهات في غزة ولبنان وإيران واليمن والعراق واستنزاف المعدات والذخائر والموارد العسكرية واستدعاء الاحتياط مما يحمل تكلفة بشرية واقتصادية، حيث تشير التقديرات إلى أن الحرب مع لبنان تحديدًا كان لها تأثير كبير على الاقتصاد الإسرائيلي وأضعفته وتراجعت الاستثمارات الأجنبية وتأثر السوق المحلّي والقطاع الخاص والسياحة والزراعة في كل منطقة الشمال والوسط وعودة الحرب سيزيدها، وعلى الصعيد الدولي واجهت إسرائيل في حربها على غزة انتقادات وعقوبات وعزلة وتراجعٌ في التأييد بسب استهداف المدنيين الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم، وخرق المعاهدات والقوانين الدولية مع تزايد الحملات الإعلامية والحقوقية التي تطال صورتها عالميًا ما يضعها في وضع دبلوماسي حساس، وداخليًا تأثرت ثقة الجمهور مما زاد الضغط على الحكومة لتغيير إستراتيجيتها وإنهاء الحرب.
ولكن نعم، لا استهانة ولا استخفاف بقوة إسرائيل وقدرتها على العدوان والقتل والتدمير، هي غارقة في انقساماتها الداخلية والرسائل من تل أبيب تمتزج بالتردد بين “استعراض القوة” و”الخوف من المفاجآت” التي تعِدُّها المقاومة، ولبنان أيضًا لا يبحث عن الحرب ولا يريدها، والمقاومة لا تلهث خلف التصعيد ولا تسعى للمواجهة ولكن لا تخشاها في الوقت نفسه، وعلى الرغم من الجراحات الدامية التي أُثخنت بها لن تقبل أن يتحول لبنان أو أن يبقى ساحة مستباحة للعدو، عينها على مواقع الاحتلال تراقب حركته وترصد حشوداته وتحصي أنفاس جنوده وضباطه وتعدُّ العدَّة للقادمِ من الأيَّام وقلبها على الجنوب وبيروت والبقاع وكل لبنان، على أهلها وبلدها وأمنهم وسلامتهم وإعادة إعمار ما تهدَّم في القرى والبلدات والمدن، واستعادة أسراها ووقف العدوان واستباحة السيادة الوطنية وإزالة الاحتلال.
ختامًا، “طفحَ الكَيل” ليس مجرَّد فرضيَّة أو تعبيرٍ عاطفي بل هي نتيجة تراكُمية لاعتداءات وخسائر موجعة متلاحقة، الخيارات المتاحة في لحظة الانفجار تدور بين ردّ محدود مضبوط، أو رد متدرّج يهدف لإعادة التوازن لقواعد الاشتباك، أو تصعيد مفتوح وشامل بكلفة عالية وموجعة لكن الأهم فيها صناعة معادلات ردع واستقرار تقلّل من دوافع الاعتداء لسنوات طويلة بل يمكن لعقودٍ وأجيال، المطلوب جدية وصدق وفعالية من قبل الجهات الدولية الضامنة للاتفاق وجهدًا دبلوماسيًا استثنائيا في كل المحافل من قبل الحكومة اللبنانية لإبعاد هذه الكأس المرَّة وشبح الحرب، لأنه حين “يطفحُ ذاكَ الكَيل” ستتبدّل اللغة وتسقط الحسابات وعندها فقط سيتذكّر الجميع أن الهدوء الذي يخيّم على جبهة المقاومة نتيجة صبرها والعضّ على الجراح ليس إلَّا هدوء على فوهة بركان ينتظر شرارة واحدة لينفجر.