نبيه بري.. بين الجنوب والدولة: زعامة التوازن وثبات الموقف

في المشهد اللبناني المتقلّب، حيث تتبدّل التحالفات وتُعاد صياغة المواقف مع كل أزمة، يبرز الرئيس نبيه بري أحد القلائل الذين استطاعوا أن يحافظوا على موقعهم ودورهم في الوجدان الوطني قبل أن يحافظوا على مقاعدهم السياسية. هو ليس فقط رئيس مجلس النواب، بل شخصية وازنة تمثل ذاكرة وطن ومسار مقاومة وتجربة سياسية نادرة في توازنها بين المحلي والإقليمي، بين الثابت الوطني والمتحوّل السياسي.

بين الجنوب والدولة: جدلية الانتماء
منذ بداياته، لم يكن نبيه بري منفصلاً عن بيئته الجنوبية التي أنجبته، لكنه في الوقت نفسه لم ينغلق في حدودها. حمل الجنوب في قلبه، لكنه عمل ليكون صوته في بيروت وفي المعادلة الوطنية. من هنا تكمن فرادته: هو زعيم محلي بجذور عميقة، لكنه رجل دولة يعرف لغة التسويات الكبرى ويُدرك أن السياسة لا تُدار فقط بالعاطفة بل بالحكمة وبفن الممكن.

لقد مثّل بري، على امتداد العقود، الجسر الذي يربط بين المقاومة كمفهوم تحرري وبين الدولة كمؤسسة جامعة. ففي الوقت الذي كان فيه الجنوب ساحة مواجهة ضد الاحتلال، كان بري حريصًا على أن تبقى بيروت عاصمة القرار الوطني لا رهينة الصراعات. بذلك قدّم نموذجًا لمعادلة دقيقة: أن تكون مقاوماً بلا أن تنكفئ، وسياسيًا بلا أن تنسلخ عن هوية الميدان.

براعة التوازن السياسي
في تاريخه البرلماني والسياسي، استطاع بري أن يرسّخ مفهوم “التوازن الديناميكي”، أي الجمع بين الثوابت والمناورة الذكية. فهو يدرك أن لبنان بلد التسويات لا الغلبة، وأن إدارة الأزمات تتطلّب قدرة على قراءة الواقع الداخلي والإقليمي بحسٍّ استراتيجي. لذلك كان حَكَمًا في لحظات الانقسام، ووسيطًا في النزاعات الداخلية، وصوتًا للوحدة حين كان الصمت يعني الانهيار.

وبينما غرق كثير من السياسيين في صراعات آنية، ظلّ بري يحتفظ بنَفَسٍ طويل وبمقدرة على الانتظار. هذه السمة جعلته رجل اللحظات الصعبة، فكان حضوره في كل أزمة ضمانة للتوازن، لا لأنّه فوق الصراع، بل لأنه يعرف متى يشتبك ومتى يُهدّئ.

البعد الإقليمي والدور الوطني
تحليل مسيرة نبيه بري لا يكتمل من دون النظر إلى موقعه في الخارطة الإقليمية. فالرجل، رغم تحالفاته الواضحة مع محور المقاومة، استطاع أن يحافظ على خيوط التواصل مع مختلف القوى العربية والدولية. هذا الدور الوسيط مكّنه من أن يكون صلة وصل بين اتجاهات متباينة، ومن أن يقدّم صورة لبنان التي توازن بين الثبات على المبدأ والانفتاح على الحوار.

من هذا المنطلق، يُفهم موقفه الثابت تجاه القضية الفلسطينية، التي يعتبرها جوهر الصراع في المنطقة. دعمه المتواصل للمقاومة في لبنان وغزة لا ينبع فقط من التزام سياسي، بل من قناعة فكرية بأن التحرر لا ينفصل عن بناء الدولة.

بري والجيل الجديد: التحدي القادم
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: كيف سيترجم هذا الإرث السياسي في مواجهة جيلٍ جديدٍ من اللبنانيين يبحث عن دولةٍ أكثر عدلاً وشفافية؟

يبدو أن نبيه بري يُدرك أن الزمن تغيّر، وأن الاستمرارية لا تعني الجمود. لذلك يحاول، عبر خطاباته ومواقفه الأخيرة، إعادة صياغة العلاقة بين التاريخ والحاضر، وبين الثبات والتجديد. إنه يدرك أن الحفاظ على الدور لا يكون بتكرار التجربة، بل بتطويرها بما يتناسب مع المتغيرات.

خاتمة: بين الرمزية والاستمرارية
إن الحديث عن الرئيس نبيه بري هو حديث عن ظاهرة سياسية متكاملة، تجمع بين التاريخ والواقعية، بين الكاريزما والبراغماتية. هو صوت الجنوب الذي لم ينكسر رغم الاحتلال، وضمير الدولة الذي لم يغادر موقعه رغم تبدّل العهود.

في حضوره يستعيد اللبنانيون شيئًا من طمأنينة الدولة، وفي مواقفه يلمسون معنى القيادة حين تكون جذورها في الأرض وعيناها على المستقبل.

إنه باختصار، نموذج للسياسي الذي فهم أن القوة ليست في الصراخ، بل في القدرة على الصبر، وأن القيادة ليست في احتلال المنابر، بل في صون الوطن عندما يصمت الجميع.

لبناننبيه بري