ما بعد حرب غزة ولبنان: الشرق الأوسط على عتبة نظام جديد

مع انحسار نيران الحرب في غزة وتراجع التوتر على الجبهة اللبنانية، تتجه أنظار المنطقة والعالم إلى ما يمكن تسميته بـ”اليوم التالي”، أي مرحلة ما بعد الحرب، وما ستحمله من تغييرات في الموازين والمعادلات السياسية والعسكرية.
هذه الحرب لم تكن مجرّد مواجهة عسكرية بين “إسرائيل” والمقاومة، بل لحظة تاريخية كشفت اهتزاز البنية التي قام عليها النظام الإقليمي منذ عقود.

أولًا: موازين القوة بعد حرب غزة

غزة: من الحصار إلى التحول السياسي
رغم الدمار الهائل وسقوط آلاف الضحايا، خرجت غزة من الحرب الأخيرة أقوى سياسيًا وأعمق رمزيًا. فهي لم تعد مجرد مساحة جغرافية محاصرة، بل أصبحت رمزًا عالميًا للمظلومية والمقاومة. والنتيجة الأهم أن “إسرائيل” فشلت في تحقيق هدفها المركزي: القضاء على البنية السياسية والعسكرية للمقاومة، والرهان الإسرائيلي على “الردع عبر الإبادة” سقط عمليًا، فيما تحوّل الميدان إلى مختبر جديد لتوازن الإرادة لا توازن القوة.

لبنان: توازن ردع واستقرار هش
على الجبهة الشمالية، نجح لبنان في تثبيت معادلة الردع المتبادل، فالمواجهة بين حزب الله و”إسرائيل” بقيت مضبوطة بسقف سياسي دقيق منع الانزلاق إلى حرب شاملة، مع الحفاظ على تأثير استراتيجي كبير. لقد أدركت “إسرائيل” أن كلفة المغامرة شمالًا ستكون فادحة، وأدرك الأميركيون أن فتح الجبهة اللبنانية يعني سقوط المنطقة في فوضى مفتوحة. والمرحلة المقبلة مرجحة لأن تكون مرحلة تثبيت هذا الردع عبر وساطات دولية، وتفاهمات غير معلنة تؤسس لحدود أكثر هدوءًا، دون أن تعني نهاية الصراع.

سوريا: بين الغارات الإسرائيلية وقلق الحكم
تبدو الساحة السورية اليوم أكثر غموضًا من أي وقت مضى. ففي الوقت الذي تراجعت فيه مظاهر الحضور الإيراني وحزب الله على الأرض السورية، تكثّفت الضربات الإسرائيلية في العمق، مستهدفة مواقع عسكرية وأمنية حساسة دون أن تواجه ردًّا يُذكر. هذا المشهد يعكس تحوّل سوريا إلى مساحة مكشوفة استخباريًا وعسكريًا أمام “إسرائيل”، التي تسعى لتثبيت معادلة “الردع الصامت” عبر السيطرة بالنار دون التورط في مواجهة شاملة.

أما في الداخل السوري، فالوضع لا يقل تعقيدًا. فالحكم يعيش حالة من القلق والتردّد الاستراتيجي، في ظل غياب رؤية واضحة لما بعد الحرب على غزة ولبنان، وتبدّل أولويات الحلفاء التقليديين. التحالف مع طهران انتهى برحيل النظام السابق، والعلاقة الحالية تقوم على مجرد تواصل متبادل، والعلاقة مع موسكو تمرّ بمرحلة برود، فيما الانفتاح العربي ما زال في طور “الاختبار المشروط”.

كل ذلك يجعل من دمشق اليوم نظامًا قلقًا أكثر منه ثابتًا، يتأرجح بين محاولات البقاء الاقتصادي والسياسي من جهة، والحرص على عدم الانخراط في أي مواجهة جديدة من جهة أخرى. ولذلك، يمكن القول إن سوريا تقف الآن عند مفترق ضبابي: إما أن تستفيد من الانكفاء الإقليمي لتعيد ترتيب أوراقها داخليًا، وإما أن تبقى ساحة مفتوحة للرسائل الأمنية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين.

اليمن: الجبهة البحرية في معادلة الردع الإقليمي
لم تكن الحرب الأخيرة على غزة حدثًا بريًا فقط، بل امتدت أصداؤها إلى البحر الأحمر وخليج عدن، حيث برز الدور اليمني بقيادة حركة “أنصار الله” كأحد أهم المتغيرات الاستراتيجية. فمنذ الأيام الأولى للمواجهة، انتقل اليمن من موقع الدعم السياسي إلى موقع الفعل العسكري المباشر، عبر عمليات بحرية استهدفت الملاحة المرتبطة بإسرائيل، ما جعل البحر الأحمر يتحول إلى منطقة ردع بحرية غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. هذا التطور أعاد رسم الجغرافيا العسكرية للمنطقة: تجميد فعلي لحركة التجارة الإسرائيلية شرق السويس، وتحول باب المندب إلى ورقة ضغط إقليمية توازي الجبهتين اللبنانية والغزاوية، وإرباك أميركي متزايد في إدارة حركة الأسطول الخامس وعمليات الحماية البحرية.

إستراتيجيًا، بات اليمن اليوم فاعلًا بحريًا من الدرجة الأولى، استطاع رغم محدودية موارده أن يفرض معادلة ردع بحري مستقلة، لا يمكن تجاوزها في أي تسوية مستقبلية. كما أن استمرار قدرته على التحكم بمسار الملاحة يجعل منه رقمًا صعبًا في معادلة الأمن الإقليمي، وركيزة غير مباشرة في بناء “توازن الضغط” على إسرائيل وحلفائها.

ثانيًا: انكفاء المشروع الأميركي – الإسرائيلي
كشفت الحرب محدودية النفوذ الأميركي في المنطقة. فواشنطن لم تعد قادرة على فرض حلول أو خوض حروب بالوكالة كما في الماضي، واكتفت بإدارة الأزمات بدل حسمها. أما “إسرائيل”، فقد فقدت عنصرها التاريخي الأهم: القدرة على الردع والحسم، والأزمة الداخلية، والتفكك السياسي، والخسارة الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي، جعلت من تل أبيب قوة متوترة أكثر منها متفوقة.

هذه المعادلة تُنذر بأن التحالف الأميركي-الإسرائيلي يعيش لحظة انكسار وظيفي: فإسرائيل والولايات المتحدة باتتا عاجزتين عن إدارة المنطقة وفق منطق القوة القديمة، بينما تصعد أطراف إقليمية جديدة تملك زمام المبادرة في ملفات الطاقة والسياسة والأمن.

ثالثًا: المتغيرات غير المحسوبة

  1. الاقتصاد بعد الحرب:
    القوى الإقليمية تتجه إلى إعادة بناء اقتصادات ما بعد الصراع عبر الشراكات المتعددة، لا من خلال الغرب وحده. الصين وتركيا وقطر مرشحة لتكون لاعبة اقتصادية رئيسية في إعادة إعمار غزة ولبنان.
  2. تبدّل التحالفات:
    الدول العربية التي سارعت إلى التطبيع مع “إسرائيل” تجد نفسها اليوم في مأزق أخلاقي واستراتيجي، بينما تبرز دول أخرى (كمصر والأردن) بدور الوسيط الحذر بين محور المقاومة والمحور الغربي.
  3. احتمال الانفجار الداخلي الإسرائيلي:
    الانقسام الاجتماعي والسياسي داخل “إسرائيل” بلغ ذروته، وأي إخفاق جديد أو أزمة اقتصادية قد تدفع البلاد إلى انفجار داخلي، يوازي في تأثيره هزيمة عسكرية. رابعًا: ملامح المرحلة المقبلة

غزة: تثبيت واقع سياسي جديد تحت مظلة عربية أو أممية وتحول المقاومة من عسكرية إلى سياسية تدريجيًا.
لبنان: استقرار نسبي وتوازن ردع، مع ضبط الحدود مقابل اعتراف دولي غير مباشر بالردع.
سوريا: غارات إسرائيلية وقلق داخلي، مع إعادة تموضع بانتظار توازنات جديدة.
اليمن: ردع بحري واستقلالية ميدانية تثبيت الحضور البحري كورقة ضغط إقليمية.
“إسرائيل”: أزمة قيادة وانقسام داخلي في مرحلة “ما بعد نتنياهو” واحتمال انتخابات مبكرة.
الولايات المتحدة: تراجع النفوذ المباشر والاكتفاء بالتحالفات الاقتصادية والأمنية من بعيد.

الخلاصة: شرق أوسط بلا هيمنة
الحرب الأخيرة لم تكن نهاية صراع، بل بداية مرحلة ما بعد الهيمنة. فلا طرف يملك اليوم القدرة على الحسم، ولا مشروع خارجي قادر على إعادة تشكيل المنطقة وفق مشيئته. والقوة لم تعد في السلاح وحده، بل في القدرة على الصمود وإدارة التوازنات.

في السنوات المقبلة، سيولد شرق أوسط جديد: تقلّ فيه الحروب الواسعة، وتتسع فيه مناطق الردع المتبادل، وتتحول فيه الشعوب والقوى المحلية إلى فاعلين سياسيين لا تابعين. إنها مرحلة “ما بعد القوة الغاشمة”، وولادة نظام إقليمي يتكئ على توازن الخوف بدل توازن السيطرة.

اسرائيلالولايات المتحدةاليمنايرانسوريالبنان