ريما فارس | خاص الناشر |
منذ كربلاء، لم تعد معركة الحقّ والباطل تُقاس بعدد السيوف، ولا تُحسم بقوة الحديد والنار، بل بثبات الموقف ونقاء الهدف. كربلاء لم تكن حدثًا عابرًا في التاريخ، بل لحظة وعيٍ إنساني كشفت أن الدم حين يُسفك دفاعًا عن الحق، يتحوّل إلى رسالة خالدة تتجاوز الزمان والمكان. فالحسين (عليه السلام) لم ينتصر عسكريًا، لكنه صنع انتصارًا أخلاقيًا وفكريًا ما زال يمتد أثره في كل أرض تُحاصر فيها الكلمة ويُقاتَل فيها الإنسان لأنه رفض الذلّ.
واليوم، حين ننظر إلى غزّة، نرى المشهد ذاته يعاد بأدوات مختلفة. لم يكن الحصار فيها مجرد عقوبة جماعية، بل محاولة لكسر الإرادة الفلسطينية التي أرهقتها الحروب والمجازر. غير أنّ الجوع الذي أرادوه وسيلة إخضاع، تحوّل إلى سلاح مقاومة صامت. فبينما أراد العدو أن يُخضع أهل غزّة بالتجويع، صمد الناس باللقمة التي اقتسموها، وبالماء الذي توزّعَ على العائلات كما توزّعت الأرواح في الخطر. وفي مفارقة التاريخ، انتصر الجوع على الإرهاب المصنَّع إعلاميًا، لأن الجوع هنا لم يكن استسلامًا، بل امتناعًا عن الخضوع.
إنّ الدم في كربلاء كان نداءً للكرامة، والجوع في غزّة هو صدى لذلك النداء ذاته. كلاهما امتحانٌ للإنسان في لحظة العجز أمام القوّة، وكلاهما يؤكد أنّ الهزيمة الحقيقية لا تكون حين يُكسر الجسد، بل حين يُكسر الإيمان.
في كربلاء، سقط الجسد الشريف، لكن الروح بقيت حيّة تلهب ضمائر الأحرار. وفي غزّة، تهدّمت البيوت وسُدّت المعابر، لكن صمود الأطفال والنساء والشيوخ حوّل الحصار إلى ميدان مقاومة معنوية لم يعرف التاريخ مثلها. الدم الذي سال في كربلاء حرّك ضمير الأمة، والجوع في غزّة أيقظ إنسانية العالم من سباتها.
وحين تتكرّر التجربة في صور مختلفة، ندرك أن معركة الإنسان مع الظلم لم تنتهِ، بل تغيّرت أدواتها، وأن الحقّ لا يُقاس بالنصر العسكري، بل بالبقاء الإنساني، بالصبر، وبالقدرة على أن نحمل رسالة الحسين في وجع الغزّيّ، ونرى في خبزٍ مقسومٍ بين طفلين صورة الخلود ذاتها التي رسمها الدم في الطفّ.
إنّ التاريخ لا يعيد نفسه عبثًا، بل يذكّرنا بأن كل كربلاء تلد غزّة جديدة، وأن النصر ليس دائمًا في الميدان، بل في الوعي. فمن انتصر في كربلاء بالدم، انتصر اليوم في غزّة بالصبر والجوع والإيمان بأنّ الكلمة الأخيرة لا يقولها السيف، بل من وقف في وجهه وقال: “لن أركع”.