في إطار السعي لتطوير الإدارة المحلية وتعزيز دورها في التنمية، برزت تجربة محافظة دمشق السابقة كأحد أبرز النماذج العربية في التحول الإداري والاقتصادي، حيث انتقلت من أداء الطابع الخدمي التقليدي إلى نموذج مؤسسي استثماري يقوم على إدارة الموارد والأصول بعقلية اقتصادية حديثة.
وقد شكّلت هذه النقلة النوعية ثمرة فكر ورؤية الدكتور بشر الصبّان، محافظ دمشق الأسبق، الذي أسّس لمفهوم جديد في العمل البلدي، يقوم على تحويل الوحدات الإدارية من جهاز إنفاق إلى جهاز إنتاج وتنمية.
من الخدمات إلى الاستثمار
انبثقت الفكرة من الحاجة إلى تجاوز البيروقراطية الإدارية التي كانت تحدّ من قدرة البلديات على استثمار أملاكها ومواردها،
فجاءت المبادرة بتأسيس شركات قابضة تتبع للوحدات الإدارية، تعمل وفق قانون الشركات وبعقلية القطاع الخاص، لإدارة الأملاك العامة واستثمارها بشكل احترافي وشفاف، وتحويلها إلى مشاريع إنتاجية تساهم في تمويل الخدمات وتحسين البنية التحتية.
وقد مهّد لذلك صدور المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015، الذي منح الوحدات الإدارية في سوريا الحق في تأسيس شركات قابضة أو مساهمة تملكها بالكامل أو بالشراكة مع القطاعين العام أو الخاص، لإدارة واستثمار أصولها وتنمية مواردها.
شكّل هذا المرسوم الإطار القانوني الذي أتاح لمحافظة دمشق إطلاق تجربة شركة دمشق الشام القابضة، كأول نموذج متكامل يطبّق هذا المفهوم الجديد في العمل البلدي.
فكر إداري وتنموي متقدّم
انطلقت رؤية الدكتور بشر الصبّان من قناعة راسخة بأن المدينة لا تُدار بالعقلية التقليدية، بل تحتاج إلى إدارة اقتصادية قادرة على توليد الموارد بدل استهلاكها. ومن هنا جاءت فكرة تأسيس شركات قابضة تُدار بعقلية القطاع الخاص مع الحفاظ على ملكية القطاع العام، ما أوجد توازناً بين المصلحة العامة والمرونة التشغيلية.
وقد مثّلت شركة دمشق الشام القابضة خطوة استراتيجية لتحويل أملاك الدولة إلى مشاريع استثمارية مدروسة، ترفد خزينة المحافظة وتفتح آفاقاً للتنمية الحضرية المستدامة.
ضوابط وضمانات للحوكمة
لم تكن هذه الخطوة مجرّد تحوّل تنظيمي، بل إصلاح هيكلي مدروس ومرتبط بضوابط واضحة. فقد نصّ المرسوم على ضرورة الالتزام بالشفافية والمساءلة في عمل هذه الشركات، ومنع تضارب المصالح، وضمان الدور الرقابي للمجالس المحلية.
بهذه المنهجية، تحقق التوازن بين الاستقلالية في الإدارة والمسؤولية في الرقابة، بما يحافظ على المال العام ويعزّز الثقة بين المواطن والمؤسسة.
نحو تعميم التجربة في لبنان
تُعدّ تجربة محافظة دمشق السابقة نموذجًا عربيًا رائدًا يمكن أن يستفيد منه لبنان في تطوير نظامه البلدي والإداري. فالبلديات اللبنانية، رغم امتلاكها لأملاك وأصول كبيرة، ما زالت تعمل بأساليب إدارية تقليدية تحدّ من قدرتها على الاستثمار والتنمية المحلية.
إن تبنّي نموذج الشركات القابضة البلدية –كما أطلقه الدكتور بشر الصبّان– يمكن أن يشكّل مدخلاً عملياً لتحويل البلديات اللبنانية إلى مؤسسات إنتاجية واستثمارية ترفد موازناتها ذاتياً، وتخفف من أعباء التمويل المركزي، وتعيد الحيوية إلى الاقتصاد المحلي.
خاتمة
إن التجربة التي قادها الدكتور بشر الصبّان في محافظة دمشق ليست مجرد تجربة إدارية، بل رؤية إصلاحية متكاملة لإعادة تعريف دور الإدارة المحلية في التنمية. فهي تؤكد أن التحوّل من الجهاز الخدمي إلى المؤسسة الاستثمارية ليس ترفاً إدارياً، بل ضرورة تنموية تستحق الدراسة والتعميم، وخصوصاً في الدول التي تبحث عن نماذج واقعية لتحقيق التنمية المحلية المستدامة، مثل لبنان اليوم.
المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015
صدر المرسوم التشريعي رقم 19 عن رئيس الجمهورية العربية السورية في 19 أيار 2015، ونصّ على جواز إحداث وحدات الإدارة المحلية لشركات قابضة أو مساهمة تملكها بالكامل أو بالشراكة مع القطاعين العام أو الخاص، لإدارة واستثمار أملاكها وأصولها ومشاريعها.
يهدف المرسوم إلى:
تمكين الوحدات الإدارية من تحقيق موارد ذاتية.
تشجيع الاستثمار المحلي ضمن إطار من الشفافية والحوكمة.
تحويل البلديات من أجهزة خدمية إلى مؤسسات تنموية واقتصادية فاعلة.
وقد شكّل هذا المرسوم الأرضية القانونية التي انطلقت منها تجربة شركة دمشق الشام القابضة.