محمد علي – خاص الناشر |
بدأت تؤكّد التّسريبات حول أطماع العدوّ الإسرائيلي في لبنان أنّ حربنا الأخيرة معه لم تكن سوى جولة فرضت شدَّتُها وقف إطلاق النّار على أن تُستكمل في وقت لاحق. وقد اتّضح أنّ المسار السّياسيّ الذي تُلزم الوصاية الأمريكيّة به الدّولة اللُّبنانيَّة، والذي تتبنّاه السّلطة من دون شروط أو ضمانات، إنّما ينتهي إلى الفوضى والاقتتال الدّاخليّ والتّقسيم، وأقصى ما “يُحتمل” إقامة دويلات صغيرة مسلوبة السّيادة والقدرات الدِّفاعيَّة، بل مستعبَدة مِن قِبل مَن يُراد له أن يكون الحاكم المطلق لهذه المنطقة. وقد عرفتم من تصريحات حكومة العدوّ تصميمها على إقامة “إسرائيل الكبرى”، فلا هو تهويل ولا إرجاف، بل كلّ ما يمكن أن يُقال في سبيل التّأكيد على جدِّيَّة القضيّة وحجم الامتحان يبقى دون المطلوب.
ذلك أنّ لبنان هذا، الذي عانقه الصّادقون من أبنائه عندما كان يشتكي من آلام تجاهلها الذين كان همُّهم سماع خفق النِّعال من خلفهم، كان يواجه تحدّيات حقيقيّة لم يدرِ بها من ظنّ بأنّ أُنس العاصمة وسكونها نعيم لا يزول أبدًا. ولكنّنا نشارف الآن على آخر لحظات الهجعة بعد انتهاء مفعول “البنج”، ولم يعد لدى المستأكلين بالشِّعارات قدرة على إيقاف التّدهور النّاتج عن تصوير البحبوحة المصطنعة وكأنّها هويّة وطنيّة يبغضها المحرومون لأنّهم، ببساطة، “لا يحبّون الحياة”. لبنان هذا ذاهب إلى الخراب، إلى نهاية جغرافيَّته التي تاجر الخوَنة بمساحتها في خطابهم العامّ بينما كانوا يستغيثون سرًّا بمن يأتي ليخلِّصهم ممّن يكفر بما يؤمنون.
بدلًا من إتعاب أنفسنا بإنقاذ المقتنعين بعبادة من يشبّههم بالحيوانات، ربّما يحقّ لنا أن نتجاوز هاجس الحفاظ على نظام ساقه حاكمه الفعليّ منذ وقف إطلاق النّار للتّفريط بأمن لبنان حتى شوّه وجه البلد وضيّع إنجازات المخلِصين في لبنانيَّتهم. هناك قراءة تقول: ربّما يجب علينا مقابلة أهل الفوضى بالمِثل، فالغبرة على من أثارها، ولسنا أُمّ مثل هذا الصّبيّ.
يوجد فريق انعزاليّ في لبنان لا يعرف من يهدِّد. يظنّ أنّه إذا وقعت الواقعة يستطيع الفرار إلى سفارة مصمَّمة لحماية الأقلِّيَّة المتميِّزة في مشهد نُبوئيّ دَمويّ. بل تخرج قياداته في الإعلام وتهدِّد بالقدرة على مواجهة المقاومة وبيئتها، بعد أن “انتهى الحزب” وقُضي على قدراته، كما يزعمون. تلك وساوسهم التي بدأت لمّا أدخلوا المُلوك قُراهم فأفسدوها، وأفرغوا طقوسَهم الدِّينيَّة من مضمونها العالي، فتصدّر مجلسهم من أنسَتْه الدّنيا وزينتها وعد الله لأصحاب الحقّ، ولو كانوا من أهل الإنجيل لاستحضروا ما في (متّى، ٥:٥): “طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ”. بمعنى: أنّ من يمتلك سيفًا ويُحسن استخدامه لكنّه مع ذلك لا يجرِّده من غمده، سيرث الأرض.
لِمَن يهمّه الأمر: كلّ ما قيل ويُقال لكم عن ضعفنا وقدرة البعض في هذا البلد على القضاء علينا واغتنام الفرصة التي صنعها معبودهم محض تهوُّر، وما هم بفاعلين أبدًا. غاية الأمر أنّ لدينا من المعرفة بالسُّنَنِ الإلهيّة، ومن الإيمان بأنّ الفرج يجيء على اليأس، ومن الحِلم ما يمنعنا من الدَّعوة إلى مبارزة قبل أوانها، ما لا يملكون. ولهذا لا نجرِّد السّيف إلّا للضّرورة وبعد إقامة الحُجَّة كما تقتضي الطّبيعة الإنسانيّة السّليمة، وتعاليم الوحي، وإرشادات الشّرائع غير المشوَّهة بتحريفات الرُّؤساء وحُكّام الجور.
الأجدر بمن يحاول في الآونة الأخيرة أن يبدوَ خبيرًا بالتَّشيُّع أن يلتفت إلى أنّ هذه الطّائفة مختلفة عن غيرها، فلا هي توجب إطاعة الوليّ الجائر حتى لو أخذ مالها وضرب ظهرها، ولا تؤمن باتّخاذ مبدأ “إدارة الخدّ الآخر” نهجًا مع الظّالمين بدلًا من الاكتفاء به مثالًا لحُسن الخُلُقِ. في منظور هذه الطّائفة، الاستسلام ليس واردًا، وتوقُّف تجريد السّيف على بعض الشّروط ليس تفصيلًا عابرًا. يوجد بين ظهرانينا من يراقب ما يحصل عن كثب، وله معرفة تامَّة بالمؤامرات والأحداث والوقائع، وينتظر صدق عنوان الضّرورة لإعادة الأُمور إلى نِصابها. لسنا كغيرنا، بل الفرق – فيما لو التفتُّم إلى البون الشّاسع بيننا وبين من يستبدل الحقّ بما يحفظ كرسيّ المتغلِّب من ذرائع ومراوغات على قاعدة “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر” – حرفيًّا، بين السّماء والأرض..
يبدو أنّ هذه “الضّرورة” أصبحت قريبة التَّحقُّق، وصار السّماح لمن يوَدّ المجازفة أهون من حمل أثقالٍ نحن بغنى عنها. من سَبَرَ المجتمعات وأدرك المكنون من آمالها، أو تلمَّس عن فحصٍ ما بأفرادها من عِلَلٍ وعذابات، وتدبَّر في سِيَرِ الحضارات حتى عرف موجبات اندثارها من غفلة الأُمم وطغيان الأقطاب والزَّعامات؛ لا يتردّد في أنّ المستقبل ليس لهؤلاء. لكنّ الشّجر لا يسّاقط ثمرًا جنيًّا دون “هزّة” لربّما اقترب موعدها. سلاحنا – كما بات مفهومًا – ليس ملكنا، وقد أُمرنا بإعداد “ولو سهمٍ”. يبقى السّؤال: هل يمتلك المتآمرون علينا من مقوِّمات الصّمود ما يمكّنهم من النّجاة عند حصول الفوضى التي يرجون، أم أنّهم أوكلوا التّفكير بذلك لمن يشهد التّاريخ بنقضه العهود وتخلّيه عن عملائه؟!