ما كانت زلّة لسان، فالأميركي الذي يقرّع بعض أصحاب المناصب خلف الأبواب المغلقة إن هم قصّروا أو تأخّروا في تلبية الأوامر، هو نفسه الذي يهين الصحافيين في مؤتمر صحافيّ، وفي الحالتين يفترض أن له حقًّا بذلك، فهو بمنظوره وبمنظور البعض منهم، ليس عليه واجب الاحترام تجاه أحد. ولذلك، لم تتفاجأ أورتاغوس الواقفة جنبه بالأسلوب المهين وبالألفاظ النابية التي استخدمها بحقّ الحاضرين، بل ابتسمت برقّة مصطنعة، ونظرت ناحية الحضور بعنجهية أميركية خالصة.
المشهد بكلّ تفاصيله يختصر الكيفية التي ينظر فيها الأميركي إلى لبنان، ما عدا أهل المقاومة، فهؤلاء سادة وكرام، لا يتجرّأ على النظر إليهم بازدراء كما يفعل، بانسيابية وسلاسة، مع سواهم.
ابتلع الحاضرون الإهانة، منهم على مضض ومنهم ببهجة الدونيّ الذي يرى أنّه يستحقّها فقط لأنّ الفاعل أمريكي. وللأمانة، في اللحظات التي جرى خلالها هذا المشهد، كان بعض الصحفيين منشغلين بالتحضيرات للتغطية الإعلامية للمؤتمر فلم يسمعوا ما جرى قبيل انطلاقه، ومنهم منى طحيني، مراسلة قناة المقاومة، والتي تفاجأت بأن أحدًا من الزملاء لم يبدِ استنكارًا بحيث لم تعرف بالإهانة الأميركية إلّا بعد مغادرتها لقصر بعبدا.
الأسوأ من التحقير الذي استخدمه برّاك، كان مسارعة البعض إلى تبرير فعلته. قيل مثلًا كانت مجرّد كلمة غير مقصودة! وقيل إن الصحفيين أحدثوا فوضى ما دفعه إلى التحدّث بانفعالية، وحتّى، قيل إنّه محقّ، فالفوضى أمر مرفوض! كثرت التبريرات التي إن دلّت على شيء فعلى انعدام الكرامة في نفوس أصحابها، أو بأحسن الأحوال على معرفتهم المسبقة بأنفسهم وبالمعاملة التي يستحقونها.
ولأن المشهد كان معبّرًا جدًا، كان لا بدّ لسفارة الجمهورية الإسلامية في إيران أن تعلّق عليه، فتقارن بين الهبّات السياديّة الساخنة التي تمسّ البعض ضدّ أي تصريح إيرانيّ عادي، فيقوم وزير الخارجية القواتيّ باستدعاء السفير لمساءلته غير المبرّرة، وبين البلادة في الدفاع عن الذات الإنسانية وكرامتها حين تتعرّض لإهانة أميركية مشهودة. وهنا، يصحّ السؤال: أليس من واجب وزارة الخارجية الآن استدعاء المبعوث الأميركي ومطالبته بالإعتذار؟ كان ذلك ممكنًا لو لم تكن الوزارة مرتعًا قواتيًّا يستطيب الإهانة إن جاءت بلكنة أميركية، ويتحسّس من اللطف واللياقة إن جاءا من ناحية إيران. لا بأس!
بعد انتشار الفيديو الذي وثّق الإهانة، سارعت رئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان اعتذار عمّا ورد على لسان أحد الضيوف الأجانب. نسي محرّر البيان أن يذكر اسم الموفد، ودوره، لا بأس أيضًا، على ألّا نجد هذا البيان متداولًا بعد سنين مع تفسير يقول إنّه صدر بعد زيارة موفد إيراني إلى القصر.
بدورها، أصدرت وزارة الإعلام بيانًا مماثلًا لتطييب خاطر الصحافيين، الذين شعروا بالإهانة. أمّا الذين لم يشعروا بها، فقد ينشرون بدورهم بيانًا يستنكر بيانات استنكارها، ويقولون فيه إنّها كانت “مزحة” مقبولة من سيّدهم برّاك، وقد يختمونه بعبارة: “نحنا حرّين، وقبلانين.. لا شأن لكم بنا”. وقد يستفيضون بالشرح فيفنّدون الأسباب الموجبة التي دفعت ببرّاك إلى توجيه الإهانة لهم، وأكثر من ذلك قد يتداعون إلى توقيع عريضة شكر له على شتمهم! فسلوكهم الخالي من أيّ أثر لكرامة شخصية أو شرف مهنيّ يجعل هذا الاحتمال واردًا وبشدّة.
ما كانت زلّة لسان، ولا عبارة انفعالية قالها ضيف ضاق ذرعًا أو غضب. هذه الكلمات التي نضحت بالازدراء وبالاحتقار وبانعدام الاحترام واللياقة، كانت الترجمة الحقيقية والواضحة للسلوك الأميركي في البلدان الخاضعة المنبطحة. كانت الترجمة الأدقّ لكيف يرى الأميركي لبنان، ونكرّر، كلّ لبنان ما عدا أهل المقاومة! فهم الندّ صاحب الشرف الرفيع، وهم القوّة التي يعرف أنّها في الحياة كما في الميدان، تؤدّبه!