يستمر بعض من ملوك ورؤساء وأمراء وحاشيتهم مرورًا بأشباه الرجال بدولهم وشيوخ دين وصولًا لنخب السلطة ومثقفيها وأقلامهم الأجيرة بالتسابق على السقوط المدوي في مستنقع الذل والهوان، مهرولين نحو مرحلة من الفجور لم يشهدها التاريخ الحديث، ولن تخطر يومًا حتّى في أظلم كوابيس خيال مبتدعي سرديات الخيانة.
خيانة أولئك الحكام باتت على الملأ دون خجل، وبيع الأوطان أيضًا والمساومة على الأعراض لاستجداء رضا الأعداء بالتزامن مع بث سموم الناطقين باسم الأنظمة الوظيفية وإعلام الارتزاق الإمبريالي الذي تفوح منه رائحة النفط كما الخيانة ذاتها التي كان يخشى المفكر العظيم الشهيد غسان كنفاني تحولها إلى وجهة نظر، والتي باتت اليوم للأسف جحيمًا يفتخر فاقدو الشرف بالسقوط فيه واحدًا تلو الآخر!
لقد فكرت مليًّا في فاجعة الخيانة تلك، ولم أجد تفسيرًا منطقيًا يسعفني، ولا تعريفًا قادرًا على احتوائها، حتّى أن متلازمة ستوكهولم ربما ستصرخ لو أطلقناها عليهم، وهذه المرة الثانية التي أستحضر بها تلك المتلازمة في مقالاتي وأنا أبحث عن وصف لثلة الخونة في أوطاننا، ما دفعني إلى إعادة ما كتبته سابقًا إزاء ذلك حيث إن ستوكهولم تفسّر نفسها إن عدنا سريعًا إلى سبعينيات القرن الماضي، حين تعاطف في العاصمة السويدية رهائن مع مختطفيهم الذين احتجزوهم عندما سطوا على أحد البنوك المرموقة في البلاد وأخذوهم رهائن ليخضعوا السلطات لتنفيذ مطالبهم، ورغم مكابدتهم شقاء الاحتجاز في غرفة يضيق بها حتّى الهواء لنحو ستة أيام؛ إلا أنهم عشقوا من تسببوا لهم في هذا الألم وتمادوا بذلك حين رفضوا الادّعاء ضدّهم أمام المحكمة، وذهبوا ليجمعوا لهم الأموال وهم يستمتعون في ترتيبها ورقة تلو الأخرى، الأمر الذي دفع السلطات في البلاد إلى اللجوء لطبيب نفسي ليشرح لهم تلك الحالة حتّى يخلصهم من ذهولهم أمام مشهد حبّ الضحية لمعذبها!
ومنذ ذلك الوقت يتم استحضار متلازمة ستوكهولم لتفسير أي حالة مشابهة، وإن اختلفت زمانيًا ومكانيًا، وفعلًا ينجح المحللون والكتاب بذلك إلاّ في حالات مستعصية كتلك التي حيرت علماء النفس والفلسفة والطب والعالم بأجمعه، فهي حالة كالطلاسم لا تفك رموزها وتتمثل بأولئك الحكام وأذنابهم الذين يهيمن عليهم حبّ يتوشح بالخيانة والعار وهم ينتقلون تاريخيًا من ذل إلى ذل أشد سحق ضمائرهم وأصالتهم وكرامتهم، ودفعهم لممارسة أقسى العلاقات شذوذًا وانحلالًا مع عدو الأمة الأزلي وباتوا يشاركونه أيضًا قتلنا وإبادتنا.
لم نعهد في تاريخ صراعنا مع العدوّ الصهيوني مثل هذا التآمر الفاضح والعلني على المقاومة، ففي السابق كان الجواسيس يخشون الظهور العلني خشية الفضيحة والعار الذي سيلاحقهم ليوم الدين، أما اليوم فهم كالإعلانات الدنيئة التي تُعرض في الأسواق بكلّ رخص وهم يتباهون بسلام الذل مع العدوّ وتتطاول ألسنتهم القذرة على سلاح المقاومة المقدس.
السؤال الهامّ الذي علينا طرحه الآن هل يدرك أولئك السفلة على امتداد أوطاننا العربية حجم الخطيئة التي يرتكبونها؟ فلولا سلاح المقاومة المقدس لما بقي للعرب شرف ولا حتّى وجود على هذه الأرض! وأعتقد لا بل أجزم أنه من حقنا المطالبة بنزع أسلحة جيوش تلك الأنظمة الوظيفية التي تدعي العروبة وتسليمها للمقاومة، وكيف لا! فتلك الأنظمة لم يردعها إرهاب وجرائم العدوّ عن حماية حدود كيانه الذي أقيم على أراضينا المغتصبة ودمائنا وأنقاض أرواحنا وذكرياتنا المسلوبة.
ولأكون أكثر وضوحًا فإن سلاح تلك الأنظمة التي تزعم العروبة، مصوب ليس ضدّ العدو، بل لحمايته، حيث يُقتل أبناء العروبة من جيوش “العروبة” حين يحاولون عبور بضعة كيلومترات للوصول إلى أراضينا المحتلة لاسترداد حقنا وثأرنا، وحتّى صواريخ ومسيرات محور المقاومة المبارك لم تسلم في سماء الله من تلك الأنظمة التي لم تتوانَ بكلّ وقاحة عن اعتراضها وإسقاطها متناسين أن الله جلّ جلاله يسدد رمي رجاله على امتداد المحور كما يؤيدهم بجنوده ويصون سلاحهم المقدس من عرشه.
وعليه فإن المطلب الحقيقي اليوم يجب أن يتمثل بنزع سلاح تلك الأنظمة الوظيفية العميلة التي وضعت بأمرٍ من القوى الاستعمارية والصهيوإمبريالية والتي وجودها ينتقص من سيادة أوطاننا العربية التي صانتها المقاومة وليس سواها، والتاريخ خير دليل على ما أقول وشاهد حقيقي على انتصارات المقاومة الفلسطينية بفصائلها مجتمعة واللبنانية المتمثلة بحزب الله ورجاله والتي أرست قواعد صلبة للكفاح المستمر ضدّ الهيمنة الأجنبية ولم تسلّم أعناقنا للشيطان الأكبر وربيبته الصهيونية على عكس الأنظمة التي لا تزال تتآمر علينا.
وآخر إنجازات تلك الأنظمة التي أشبعتنا عنتريات تاريخيًا مطالبة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية بنزع سلاحها وتسليم غزّة لسلطة أبو مازن عقب إدانتها أيضًا في إعلان نيويورك الذي صدر مؤخرًا، السابع من أكتوبر، الانتصار الذي اعتبرته الأنظمة الخانعة المنبطحة “هجومًا”! تخيلوا أي زمان هذا الذي نحياه وتتبدل فيه الثوابت والقيم، وتنقلب الحقائق، فمنذ متى مقاومة مغتصب الأرض والعرض باتت هجومًا يا أنظمة العار والذل؟
وإن انتقلنا إلى لبنان فسهام الغدر أيضًا مصوبة على رجال الله وحزبه من تلك الأنظمة وحتّى من الرئاسة والحكومة التي أعلنت عن صياغة خطة لنزع سلاح الحزب بحلول نهاية العام الجاري، وتصريحاتهم تصدح ليل نهار بتنفيذ الإملاءات الأميركية لنزع سلاح المقاومة المقدس برعاية صهيوأميركية.
والرد الحاسم على ثلة الخونة جاء على لسان سماحة الشيخ نعيم قاسم ليطمئن القلوب المؤمنة بالمقاومة وتهيم بعشقها إذ قال “إننا سنخوضها معركة كربلائية إذا لزم الأمر في مواجهة هذا المشروع الصهيوني الأميركي مهما كلفنا الأمر، ونحن واثقون أننا سننتصر في هذه المعركة وهيهات منّا الذلة”.
وهذا الموقف امتداد لما قاله سماحة السيد الأسمى حسن نصر الله، عليه رضوان الله، حين لخص الحكاية سابقًا بأن” الدولة التي لم تفعل شيئًا لاستعادة الأرض اللبنانية المحتلة ليست دولة، الدولة التي لا تستطيع أن تبسط سلطتها كما يُقال على كلّ أراضيها إلاّ بمساعدة عدوها وقتل شعبها ليست دولة، الدولة التي تتواطأ على شعبها وأهلها وعلى أشرف مقاومة في بلدها ليست دولة”.
ومسك الختام وفصل القول يتمثل باستحضار كلمات سيدنا نصر الله الذي ما زال صوته يدوّي عزة وكرامة ويخط نصرنا ويكفي أن نردّدها ليعلم الأعداء أن المقاومة لم ولن تُهزم: “أي مقاومة يريدون أن يطالبوا بنزع سلاحها لا أقول أي مقاومة يريدون نزع سلاحها، فشروا أن ينزعوا سلاحها”.