سلاح الله: عهد كربلاء ووعد الغيبة

د. أكرم شمص | خاص الناشر

في زمن يتكاثر فيه الكلام عن التنازلات، ويتصاعد فيه الضغط لتفكيك عناصر القوّة، يخرج صوت ثابت لا يرتجف ولا يساوم: “نحن لا نسلّم سلاحنا”. خطاب تعبوي عقائدي – سياسي يرسم حدود الموقف من دعوات نزع السلاح، ويربطها مباشرة بالموقف الحسيني الأصيل الذي يرفض الخضوع للطغيان. وتحمل هذه الكلمة عدة أبعاد يمكن تحليلها في سياق الراهن اللبناني والصراع مع العدوّ الصهيوني، من خلال استحضار النموذج الحسيني كمصدر للشرعية.

أولًا: الربط العقائدي بين الحسين والسلاح
يشدّد الشيخ نعيم قاسم على أن سلاح المقاومة ليس ملك حزب أو طائفة، بل هو امتداد لنهج الحسين وجراح العباس ودماء الشهداء في الجنوب والقلمون. ويقول بوضوح: “نحن جماعة لا نقبل أن نُساق إلى المذلة، ولا نُسلّم أرضنا أو سلاحنا للعدو الصهيوني… ومن كان مع الحسين لا يُسلّم للعدو”.

في هذه الرؤية، السلاح ليس أداة قتال فحسب، بل عهدٌ إيمانيّ وخط مباشر مع كربلاء. فمن كان مع الله، لا يضع سلاحه بإشارة من واشنطن أو تل أبيب.

تصريحات الشيخ قاسم تأتي وسط تهديدات داخلية وخارجية تتحدث عن “حروب قادمة” إذا لم يُحل “ملف السلاح”. لكنّه يؤكد أن الهدف الحقيقي ليس نزع السلاح بل نزع الكرامة وروح المقاومة. ولذلك، فإن مشهد كربلاء يُستدعى هنا لا كرمز فقط، بل كموقف عملي يُجسّد السلاح بوصفه تكليفًا إلهيًا لا يخضع للتفاهمات أو السياسات، تمامًا كما أن ذكر العباس والجرحى ليس تذكيرًا عاطفيًا بل تجسيد للتضحية من أجل الكرامة.

ثانيًا: خطاب الرفض السياسي والاجتماعي لنزع السلاح
في خطاب حازم وواعٍ، وجّه الشيخ نعيم قاسم رسالة مزدوجة: أولًا إلى الداخل اللبناني، ليؤكد أن السلاح ليس مادة للتفاوض السياسي، وثانيًا إلى الخارج، بأن لا مكان لأي رقابة دولية أو صهيونية على قراراتنا الوطنية. قال بوضوح: “لا نقبل بأن يهدّدنا أحد بأن نتنازل، لن نتنازل عن حقنا، ولا علاقة للغدة السرطانية بأن تراقب اتفاقاتنا الداخلية”. وأضاف أن “لا علاقة للكيان الغاصب باتفاقنا في الداخل اللبناني، ولا يحق له أن يشرف عليه أو يراقب مفرداته”. هذه الكلمات لا تُطلق من باب الخطابة، بل تعبّر عن رؤية إستراتيجية راسخة، ترى أن المشكلة الحقيقية ليست في السلاح، بل في عدو يسعى لاحتلال الإرادة قبل الأرض، ولخنق قرار المقاومة من الداخل قبل أن يواجهها بالسلاح.

السلاح في منطق المقاومة ليس بندقية أو صاروخًا وحسب، بل هو تعبير عن الإرادة الحرة وعن كرامة الشعوب. إنه عهد لا يمكن فصله عن وجدان الأمة، يحمل في روحه وصايا كربلاء، وجراح الجنوب، وتضحيات الأمهات اللواتي أرسلن أبناءهن إلى الجبهة لا إلى سوق الخنوع. ولهذا، فإن موقف الشيخ قاسم لا ينبع من حسابات ظرفية أو حزبية، بل من إدراك وجودي لوظيفة السلاح كأداة تحرير وحماية للهوية والكرامة.

ثالثًا: مفهوم الجهاد والانتظار.. السلاح في سياق الغيبة
يمتاز خطاب الشيخ نعيم قاسم بربطه العميق بين المقاومة والانتظار المهدوي، حيث لا يُنظر إلى السلاح كأداة دفاع فحسب، بل كتكليف شرعي وجزء من مشروع إلهي ممتد عبر الزمن.

يقول: “تكليفنا أن نعمل كما لو أن الإمام المهدي (عج) حاضر بيننا… المنتظرون له في حركة دؤوبة، يجاهدون، يُصلحون، ويُربّون الأجيال”، مؤكدًا أن “حزب الله هو حزب الإمام المهدي، ونحن جنوده في طريق الوصول إليه”.

بهذا المعنى، يتحوّل “الانتظار” من حالة سكون إلى حركة فاعلة تُنتج مقاومة مستمرة، ويصبح السلاح واجبًا عقائديًا لا يخضع للضغوط أو التفاهمات. إنه ليس لحماية حدود فقط، بل حالة جهوزية أممية تربط الأرض بالسماء، والمعركة اليومية بوعد النصر الإلهي. وهكذا، يتجاوز السلاح الجغرافيا اللبنانية ليُعبّر عن هوية أمة تقاتل في طريق الإمام، لا تنتظر ساكنة بل تصنع زمن الظهور بدمها وصبرها.

رابعًا: السردية الإستراتيجية.. “الغدة السرطانية ” ليست عدوًا فقط بل خطر عالمي
لا يتعامل الشيخ نعيم قاسم مع الكيان الصهيوني بوصفه مجرد “عدو تقليدي”، بل يصنّفه بوضوح كـ”خطر إستراتيجي على فلسطين ولبنان وسورية ومصر والأردن والعالم”، مؤكدًا أن “الغدة السرطانية خرقت اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من 3700 مرة، ما يدلّ على أنها لم تتخلَّ يومًا عن مشروعها التوسّعي العدواني. غير أن الأخطر، كما يشير، أن هذا الكيان لا يهدّد المسلمين وحدهم، بل يشكّل تهديدًا للمسيحيين واليهود وأميركا نفسها، بسبب طبيعته الاستيطانية العنصرية القائمة على الإقصاء والتفتيت.

بهذا الطرح، يوسّع الشيخ قاسم دائرة المواجهة من الإطار الجغرافي إلى القيمي–الأخلاقي، حيث تصبح “هذه الغدة السرطانية ” رمزًا لخطر يهدّد الإنسانية بأكملها، لا فقط الأراضي العربية. من هنا، يعود السلاح ليُقدَّم كأداة دفاع عن الكرامة البشرية، لا مجرد وسيلة لتحرير الأرض. فمواجهة هذا الكيان لم تعد خيارًا دفاعيًا محليًا، بل ضرورة وجودية عالمية ترتبط بالحفاظ على الحد الأدنى من العدالة والحق والحرية في هذا العالم المنهك بالهيمنة والازدواجية.

خامسًا: التطبيع أو الرضى بالعيش تحت سلطة الاحتلال أو الخضوع للعدو
يستبطن خطاب الشيخ نعيم قاسم رفضًا صريحًا لفكرة “العيش بسلام” تحت سلطة من يرضخ للاحتلال أو يطبّع معه، حتّى لو كان ذلك تحت مسمّى “العمل” أو “التنمية”. فالحياة وفق هذه المقاربة لا تُقاس بالاستقرار الاقتصادي أو الخدمات، بل تُقاس بالكرامة والسيادة ورفض الإذلال.

في هذا الإطار، يرفض الشيخ قاسم ما يُروّج له من قبل بعض الجهات اللبنانية والدولية من مشاريع “التسوية مقابل التنمية”، إذ يرى أنها تسعى لتحويل الشعوب إلى أدوات طيّعة مقابل لقمة مغمّسة بالذل، أو كهرباء تحت سقف الاحتلال. والحال أن المقاومة، في فلسفتها، لا ترى في “العيش بلا سلاح” أمنًا، بل عبودية، وتؤمن أن الحياة الحقيقية تبدأ من لحظة رفض التنازل، لا من لحظة الخضوع للتوازنات المصطنعة.

خاتمة: سلاح الله لا يُسلَّم
إن السلاح الذي تحمله المقاومة اليوم ليس أداة دفاع عن حدود مرسومة على الخرائط، بل هو سلاح الأمة بأسرها، سلاح فلسطين وسورية ولبنان، وسلاح الكرامة التي رُهنت طويلًا في أسواق النفط وصفقات التطبيع. إنه سلاح الله، لا يُباع ولا يُسلَّم، لأنه لم يُمنح ليكون وسيلة هيمنة، بل أداة تحرير، وعهدًا في رقاب المؤمنين حتّى قيام الحق.

خطاب الشيخ نعيم قاسم، في جوهره، ليس موقفًا سياسيًا لحظيًا، بل وثيقة عقائدية وإستراتيجية تُجدد التزام المقاومة بخط الإمام الحسين، وبالانتظار الجهادي للإمام المهدي (عج)، وتعلن أن منطق التنازل لن يمر، مهما تنوّعت الضغوط أو تغيّرت الجبهات. فكلّ من يظن أن سياسة العقوبات أو التهديد قادرة على انتزاع بندقية من يد مقاوم، لم يفهم بعد ماذا تعني “هيهات منا الذلة”.
فمن كان مع الحسين، لا يُسلّم، ومن كان مع الحق، لا يخضع، ومن كان جنديًا في حزب الإمام، لا يضع السلاح، لأن سلاح الله لا يُسلَّم.