“السيد” في عاشوراء.. حضور رغم الغياب

محمد علي | خاص الناشر

صحيح أنّه ربّما لا يمنع ظلمات الامبراطوريّة من أن تعمّ زوايا الأرض بأسرها، وأنّ المرء لا يكاد يجد نقطةً في هذا العالم خالية تمامًا من لوث سياسات المغضوب عليهم وفساد طريقتهم، وأنّ الباحث عن الله سبحانه وتعالى في تفاصيل الواقع النّفسيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ المحيط به لن يجد سوى اضطرابات واضعيه من ذوي النّفوذ والتّأثير، لا سيّما في هذا الزّمن بفضل ما سوّغته وسائل وأدوات التّعليم الجماهيريّ، بتقنيّاتها وخوارزميّاتها، مِن أدلجةٍ مُشَخْصَنَة.

لكنّ المعادلة ليست بهذه البساطة، والمسرح غير مهمَل ولو بدا كذلك. لو أردت أن أُمثّل تصوّري له من وحي الأفلام والمسلسلات لذكّرت هواتها بأنّه غالبًا ما يقضي البطل الخارق يومَه مستترًا بالمأنوس من المظاهر الاعتياديّة، ثُمّ يخرج ليلًا فيجلس على حافّة أطول برج في المدينة ليسهر على أهلها. والمتنعّم بألطاف هذه الرّعاية، المنبثقة حقيقةً من أعماق الشّعور الصّادق بالمسؤوليّة العامّة، قد يدرك وجودها وقد لا يدركه. لكنّه مغمور بما تحمل إليه مِن أمن وهداية.

هكذا كنّا في الواقع. نذهب ونعود ولا ندري من أين يشعّ النّور، لكنّه يصلنا. كان سيّدنا من تلك النّفحات الرَّبَّانيَّة في أيّام دهرنا، ومن دلائل الرِّعاية المهدويّة التي ندرك وجودها بمقتضى الضّرورة العقليّة رغم “غيبتنا” عن الوجود المقدّس لمصدرها وغفلتنا عن كيفيّة انعكاس صورها؛ نلتمسها دونما نيّة وقصد، لِما هو مركوز في وجداننا مِن طلب الكمال وحبّه، والميل إلى الفضيلة ومظاهرها.

حتى إذا ذرَّ وأطلّ سيّدُنا، وأقطر جماد الحياة بقطرة من الحقّ المنتظَر، وقفنا نحن التّائقين إلى ربيع الفرج فأنصت كلّ من اعتاد الهَود على صقيع هذا العالم، ليخبرنا البصير بعناوين المراحل وملامح المشهد، وبالتّحدّيات والتّكاليف، وما ينبغي وما لا ينبغي، وليقتبس من نور مواقف أجداده المعصومين ما تمضي العصور ولا ينطفئ، وليبيّن لنا من القضيّة ما فيه براءة الذِّمَّة وخلاص الأُمّة، وبذلك ختم عمره في حربنا الأخيرة.

تارةً يستنهض الغافلين كجدّه أمير المؤمنين (ع): “ماذا تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقّكم؟! الموت خير من الذُّلِّ لكم في هذه الدّنيا لغير الحقّ [..] ألا دين يجمعكم، ألا حميّة تغضبكم، ألا تسمعون بعدوّكم ينتقص بلادكم ويشنّ الغارة عليكم؟!”، وأُخرى ينبّه على العواقب كجدّه سيّد الشّهداء (ع): “فإن لم تنصرونا وتُنصفونا قوي الظّلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم. وحسبُنا الله وعليه توكّلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير”.

ونحن على أعتاب ذكرى عاشوراء، لا يسعنا إلّا أن نتذكّر “السيّد”، الصّادق الذي عانق رسالة الإمام الحسين (ع) حتى الرَّمق الأخير، الرّاوي لواقعة الطَّفِّ بلسان الحاضر، المقاتل لا لغنيمة سوى الحُرِّيَّة، ثُمّ العائد بجواهره إلى معدن الأسرار الكربلائيّة، إلى دار البقاء حيث مقاعد الصّدق ومنابر النّور..

سيّدنا لن يطلّ علينا هذا العام، فقد ذاب في الرّواية، أو قل: التحق بعلامات خلودها، وترك لي، أنا المهاجر إلى نُصرته، ولأبناء هذه البيئة الصّابرة المحتسبة لما أصابها في سبيل أداء الواجب الشّرعيّ والانسانيّ، وظيفة وفرصة.

أمّا الوظيفة، فهي أن نرث من قيادته ما يورَّث ونكمل المسيرة، وأمّا الفرصة، فأن ننال بالبقاء على العهد مقام الدّعاة إلى طاعة الله سبحانه وتعالى والقادة إلى سبيله، وهو المرتقب منّا بعد الامتحان الأخير فيما لو التفتنا إلى السُّنن الإلهيّة. ختامًا، نسأل الله جلّ وعلا أن يتغمّد سيّدنا الشّهيد برحمته، وأن يوفّقنا لإقامة مراسم العزاء في هذا العام وفي كلّ عام، وأن يرزقنا شفاعة الحسين (ع) في الدّنيا والآخرة؛ إنّه سميع مجيب.