حين يُهزم الجَمع

بعد اثني عشر يومًا من أوسع مواجهة عسكرية تشهدها المنطقة منذ عقود، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء أمس وقفًا شاملًا لإطلاق النار بين الولايات المتحدة وإسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومع انتهاء الجولة الأولى من هذه الحرب، التي وُصفت بأنها “تكتيكية” في الظاهر و”استراتيجية” في العمق تتبلور ملامح ما يمكن تسميته بـ “توازن الهزيمة الجزئية”، حيث لم ينجح أي طرف في تحقيق انتصار حاسم، لكن الرسائل الكبرى قد وصلت. فماذا حققت إسرائيل وأميركا وأين انتصرت إيران؟
منذ اللحظة الأولى، تم تسويق العدوان على إيران على أنه يستهدف إنهاء قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم وامتلاك سلاح نووي وضرب برنامج الصواريخ البالستية. لكن خلف هذا العنوان كانت تقبع أهداف أعمق تتصل بإسقاط النظام، وتفكيك الجغرافيا الإيرانية، ومنع تصدير “النموذج المستقل” الذي تمثّله طهران لشعوب المنطقة ودول العالم الحر.
تلقت إيران فجر الجمعة 13 من حزيران الحالي ضربة مباغتة كبدتها خسائر فادحة حيث تم استهداف عدد كبير من القيادات العسكرية والأمنية والعلماء النوويين، وبحسب ما سرب عن بعض الاعلام الإسرائيلي ان هدف الضربة المباغتة كان اغتيال قائد الثورة وعدد كبير من المسؤولين، بالتزامن مع تمهيد الأرضية لأعمال شغب وفوضى ما يؤدي الى اسقاط الحكومة ومن ثم تغيير شكل النظام في إيران.
لكن سرعة استيعاب طهران للضربة وانتقالها من تلقي الهجوم الى رد الفعل السريع والقوي قلب موازين المعركة رأسا على عقب. حيث عين القائد بدلاء للقادة الذين تم اغتيالهم واستهدفت إيران قلب الكيان بصليات كبيرة من الصواريخ خلال اقل من 18 ساعة على حادثة الاغتيالات المترافقة مع عدد كبير من الغارات في قلب العاصمة.
وردا على العدوان الأميركي على منشآت إيران النووية بعد ان حذر قائد الثورة من عواقب مثل هذا الفعل، تعاملت إيران مع العدوان بمبدأ الند للند رغم الهوة الكبيرة بالقدرات العسكرية بين حلف الأطلسي وإيران.
ففي سابقة نوعية، قصفت إيران قاعدة “العُديد” الجوية الأميركية في قطر، وهي القاعدة الأكبر للقيادة المركزية الأميركية في المنطقة، بصواريخ دقيقة استهدفت مدارج الإقلاع وبعض المنشآت اللوجستية. ورغم أن البنتاغون أعلن “عدم وجود إصابات بشرية كبيرة”، إلا أن الرسالة الإيرانية كانت استراتيجية بامتياز القصف لم يكن تصعيدًا عشوائيًا، بل كان تطبيقًا صريحًا لمبدأ الرد بالمثل: إذا استُهدفت منشآتنا السيادية، نرد على قواعدكم المباشرة في الخليج. وتكريسًا لقواعد اشتباك جديدة، إيران لم تكتفِ بالرد على إسرائيل، بل نقلت المواجهة إلى القواعد الأميركية نفسها، وهو ما يعكس ثقة متزايدة بامتلاك “قدرة الردع”، لا مجرد القدرة على الاحتمال والصمود.
هذا التحول يرسّخ ما يبدو أنه تحول جذري في معادلات القوة الإقليمية، حيث لم تعد القواعد الأميركية بمأمن، ولا تُعتبر خطوطاً حمراء.
فرغم الثمن البشري والمادي الذي دفعته إيران، إلا أنها خرجت من المعركة وقد رسّخت عدّة حقائق. أولاً، أنها قادرة على الرد المباشر على إسرائيل وأميركا ومن يتعاون معهما رغم تفوق الأعداء عسكرياً وجوياً. واثبتت تحت النار أن النظام في إيران مهما تعرض للضغط لم يتفكك ولم يُسقط، بل تمكّن من تعبئة قاعدته الشعبية في لحظة مواجهة مصيرية وشهد مستوى عالٍ من الالتحام الشعبي حتى من أكثر الشخصيات المعروفة بانتقادها ومعارضتها للنظام في ايران، وربما يعتبر هذا المعيار سببا رئيسياً في سعي الولايات المتحدة الى وقف العدوان باعتبار ان السبب الرئيس له لم يعد ممكناً وان الكلفة التي ستدفع باتت باهظة مع مرور الوقت.
من الناحية التقنية، حققت إسرائيل اختراقاً نادراً بضربها في عمق إيران. لكنها في المقابل، تعرّضت لصواريخ ومسيّرات طالت قلب تل أبيب وحيفا وبئر السبع وإيلات، وشهد العالم للمرة الأولى مبانِ تدمر في تل أبيب ومواقع استراتيجية وأمنية تتعرض للقصف العنيف وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى رغم الرقابة الأمينة الصارمة على الاعلام وحظر النشر المتبع. وربما كانت الرسالة الأوضح من هذه الحرب: “لا أمن دائم لإسرائيل في ظل صراع مفتوح”. وان إمكانية ان تتعرض إسرائيل للتدمير الفعلي باتت امرا واقعا لا شعارات وهو قابل لتتحقق في أي مواجهة مباشرة.
ربما لم تكن الولايات المتحدة تسعى إلى احتلال إيران عسكرياً، لكنها أرادت تحطيم بنيتها الردعية وشبكة نفوذها الإقليمي ومنعها من ترميم القوة ومراكمتها وامتلاك المعرفة والقدرة، لكن نتائج المعركة الواضحة يمكن اختصارها بعدة نقاط. فقد حققت الولايات المتحدة نجاحاً تكتيكياً محدود تمثّل في قصف بنى تحتية نووية وصاروخية معينة، لكنها فشلت فشلاً استراتيجياً في كسر إرادة النظام او تفكيك الدولة وتأليب القاعدة الجماهيرية. ولعل أبرز ما يمكن الحديث عنه هو انكشاف محدودية القوة العسكرية في فرض نموذج سياسي مختلف فير إيران، فرغم مشاركة قوى اطلسية وأميركا في دعم إسرائيل بكل أنواع الدعم العسكري واللوجستي والأمني والاستخباري المباشر وغير المباشر. هُزم الجمع امام صلابة القاعدة الشعبية وتلاحمها مع النظام وعلى رأسه قائد الثورة الامام الخامنئي، وقدرة القوات العسكرية بتوجيه ضربات كبرى ومؤلمه للأعداء، وجرأة الجناح السياسي في الثبات على مصالح إيران وعدم التراجع رغم قساوة المشهد. كما أظهرت هذه الحرب أن الهيمنة الغربية تراجعت، أمام عجزها عن فرض الاستسلام رغم تفوقها العسكري الساحق. فالمعركة لم تكن حول الصواريخ فقط، بل حول من يملك الحق في أن يكون مستقلاً ومؤثراً في عالم أحادي القطب، فكانت صداماً حضارياً بين مشروعين، مشروع السيطرة والإلحاق والتبعية، ومشروع السيادة والمقاومة. انتهت الجولة الأولى بانكشاف القوة الغربية على حقيقتها فهي بوحشيتها قادرة على التدمير، لكنها عاجزة عن بناء النهايات كما تشتهي فالنماذج الحية لا تُسقطها القنابل.

اسرائيلالولايات المتحدةايران