عبدالحافظ معجب* |
في السياسة كما في السيرك، هناك من يقفز عبر الحلقات النارية، وهناك من يشعلها تحت قدميه… ثم يتساءل: من المسؤول؟
دونالد ترامب، الرئيس الأميركي و”المنجم الرسمي لمنصات التواصل”، قرر أن يتقمص دور البطل العالمي المدافع عن إسرائيل، في لحظة حماسة نادرة ظن فيها أن إيران ستبتلع العدوان الإسرائيلي كما تبتلع أمريكا تقارير حقوق الإنسان: بلا مضغ، وبلا ردة فعل.
لكن إيران – على غير ما توقّعه ترامب وصقور البيت الأبيض – لم تبكِ في مجلس الأمن، ولم ترفع دعوى أمام محكمة الجنايات، بل رفعت سقف الردود وصواريخ الواقع. وما إن بدأت الصافرات في تل أبيب، حتى بدأت صافرات أخرى داخل دماغ ترامب، فدخل في موجة من التصريحات المتناقضة التي لو قُرئت متتالية، لأعطتنا خلاصة كتاب في علم النفس المختل… أو دليل تقلبات المزاج الحاد.
فمن تغريدة إلى أخرى، تحوّل ترامب من “صقر نووي” إلى “حمامة مربوطة بخيط تغريدة”، فبدأ بـ: “غادروا طهران فوراً”، ثم لحّنها بلطف بـ: “قلت ذلك لحماية الأبرياء”. بعدها، بدأ التشنج يظهر في “صبرنا ينفذ”، ثم تذكّر فجأة أن الجنود ليسوا بيادق في لعبته، فقال: “لا نريد خسارة جنودنا”.
وما هي إلا ساعات حتى تحوّل إلى رجل المخابرات الشجاع وهو يصرّح: “نعرف مخبأ المرشد”، لكن هذه الشجاعة لم تدم، فقد أتبعها بجملة: “لن نقتله الآن”… يا للكرم الأخلاقي!
ثم جاءت مرحلة المفاوض الحنون، فقال: “تعالوا نتفاوض”، لكنه لم ينسَ أن يضيف عليها نكهته المعتادة: “نريد استسلاماً بلا شروط”، وكأنه يطلب من إيران أن تحضر إلى طاولة الحوار مكبّلة اليدين وبنصف سيادة.
أما قمة المسرحية، فكانت في عروض التشويق المجاني: “ترقّبوا نهار الخميس”، “انتظروا الأسبوع القادم”، “سنضرب إيران”… قبل أن يختم العرض السياسي البائس بجملته الذهبية: “لن نضرب إيران ولن ندخل الحرب”. تماماً كمن يهدد ثم يتراجع، ثم يتمنى أن أحداً لم يسمعه أصلاً! أو يقراء تغريداته قبل حذفها.
ما حصل في الحقيقة هو أن ترامب – ومعه اللوبي الداعم للكيان الإسرائيلي – لم يتوقعوا أن رد الجمهورية الإسلامية في إيران سيكون بهذا الحجم والوضوح، فدخلوا في متاهة “إدارة التبعات”، وأخرجوا ترامب من حالة الزهو إلى حالة “الاهتزاز التلقائي المزمن”. وهو اضطراب سياسي معروف، يُصيب القادة الذين يطلقون النار أولاً… ثم يتساءلون عن وجود أهداف مدنية لاحقاً.
لا شك أن الدعم الأميركي لإسرائيل أمر تقليدي بقدر تقليدية القهوة في مكاتب الـ CIA، لكن الجديد هو حجم الارتباك العلني الذي أصاب رأس الإدارة حين قررت الجمهورية الإسلامية الرد بقواعد مختلفة. ترامب، الذي طالما تفاخر بأنه رجل “الصفقات الحاسمة”، وجد نفسه في مواجهة مع دولة لا تتسوق من “أمازون السياسة”، ولا تطلب رضا واشنطن على كل صاروخ.
إن أخطر ما في هذا المشهد ليس التهديد بالحرب ولا لغة التصعيد، بل هذا النوع من الزعامات المرتبكة التي تُقحم العالم في كوارث بناءً على توقعات خاطئة، ثم تحاول الخروج منها عبر منصّات التواصل الاجتماعي… بتغريدة هنا، ومؤتمر صحفي هناك، وتهديد مؤجل إلى الخميس القادم.
ما يحدث يُذكّرنا بأن السياسة الأميركية – خاصة في عهد ترامب – تشبه إدارة فرن ميكروويف… ضغطة واحدة زائدة، وينفجر الطبق ويحترق المطبخ بكل من فيه.
*إعلامي يمني