العبودية تصنع الأمن

أحمد مهدي | خاص الناشر

نحاول في هذه الأسطر أن نسبر أغوار الدوافع المستدامة للسياسات الإسرائيلية في المنطقة من خلال الإطلالة على المنظومة الفكرية الغربيّة وتبيين المفاهيم المقابلة من وجهة نظر الإسلام عبر الاستناد إلى النصوص القرآنية حيث يمكن للمراقب من خلال ملاحظة نمط هذا الصراع أن يكشف اللثام عن الحقيقة الكامنة وراء غبار الأحداث والتطورات.

تطوَّر الفكر الغربي على مدى السنين واستقرّ على أسس وأصول كالفردانيّة والعقلانية والمصلحة، فهذه الأسس يمكن أن تفسّر الكثير من سلوكيات المجتمعات الغربية المعاصرة، لكن بعض السلوكيات قد لا نجد لها تفسيرًا منطقيًا، فما الذي يحرّك الكيانات لهذا التوحّش الهائل؟ وما الذي يفسّر الاندفاع الدائم للقتل بوتيرة متسارعة؟ ما الذي يدعوهم لقتل الأطفال وممارسة الإبادة بهذا الشكل غير المسبوق تاريخيًا؟ ما الذي يدعوهم لتأليب مشهد المأساة على مشهد الإنجاز؟ وما الذي يدفعهم لصناعة صور الدماء والأشلاء في أذهان الشعوب؟

إنه الخوف، فالغرب لطالما سعى لتحقيق الأمن هربًا من الخوف، الخوف من الضعف، الخوف من خرق التدابير الأمنية، الخوف من الموت، الخوف من قوى الطبيعة، الخوف من العدوان البشري والخوف من الفطرة. الخوف هذا يشكّل دافعًا ذاتيًا بل يمتدّ ليغيّر نمط الحياة الاجتماعية، ولممارسة الحراسة والدفاع وجميع الاحتياطات التي تؤدي بدورها إلى المزيد من الخوف وتأكيد الشعور بالخلل لا إلى السلامة والأمن، لأن هذا النمط يؤدي للوقوع بدائرة مفرغة في خلق حالة دائمة من الشك والخطر ويؤدي لتآكل الثقة الاجتماعية ويكون الأمن هذا على حساب “الحريّة” التي تضرب مفهوم الفردانيّة، وتحبس الخائف في هوس السيطرة وتوقعه دائمًا في فخ الواقع غير المتوقّع مما يشعره دائمًا بعدم الكفاية والتهديد.

لذلك نرى أن الصهاينة يقفزون من الخوف إلى الخوف، من جدار الحدود إلى تأمين البيئة الإستراتيجية إلى محاولة بسط السيطرة على أنظمة الدول، وليس التسويق للخضوع أو قبول التطبيع يحلّ المشكلة، فهذه سورية اليوم التي تقدّم كلّ التنازلات ليست بمعزل عن الأطماع، كذلك مصر والأردن ولبنان، فمتى ما توفّرت القدرة لمزيد من التوسّع لن نجد الصهاينة إلا في طهران وأنقرة والقاهرة وجدّة.

لا يمكن للصهاينة الجمع بين نقيضين، بين الحريّة والأمن وهذا ما يضعهم بالتحديد في خطر التدمير الذاتي وتحقّق لعنة الزوال. لكن حتّى حينما يكون العدوّ في دائرة الزوال هذه لا بدّ من الرجوع إلى الأسس القرآنية التي لا تريد للموحّد أن يكون مخدّرًا فحسب ينتظر تحقّق الوعد دون القيام بأيّ حركة بل يصرّح “.. وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”. فهذه العبر الموجودة في القرآن التي تحدّثت عن وجود اليهود من بني النضير لم تكتفِ بأن اليهود كانوا مأخوذين بالرعب يخربون البيوت على أنفسهم بل لأيدي المؤمنين حصّة في ذلك أيضًا.

في المقابل يبقى السؤال: ماذا عن الخوف الذي يتسلّل أيضًا إلى قلوب أهل الإيمان؟ هذا الخوف الذي يسقيه العدوّ دائمًا من دماء الأطفال وصور أشلائهم، والذي يحاول أن يزرعه عبر أصوات القذائف وأبواق الإعلام والمحلّقات التي لا تفارق رؤوس القوم والاستهداف المتواصل للقرى والتهويل المستمر للناس والإشعار بالعجز وتكبير فاتورة المقاومة؟ أو كما يصرّح القرآن “ويخوّفونك بالذين من دونه” أو عندما يقول “إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ”؟

هذا النوع من التخويف لا ينفع مع أهل الإيمان، فالخوف هو توقع مكروه عن أمارة مظنونة، أو معلومة. والحقيقة أن البلاء هو سيرة الحياة الدنيا ولا يمكن الفلاح فيها إلا بالصبر “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”، والشهادة ليست مكروهًا بل هي غاية الآمال وأشرف الموت وكلّ نقصٍ بعين الله، فالاختبار الإلهي سنّة كونية لا تقبل التغيير، والعبودية لله الواحد تنسجم كلّ الانسجام مع تحقّق الأمن الحقيقي والسلام والالتفات المستمر إلى عودتنا إلى الله يشعرنا بزوال هذه الحياة وأن كلّ مواهبها الماديّة غرض زائل “إنا لله وإنا إليه راجعون”. بل أكثر من ذلك فإن استشعار العبودية لله لها الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر، بل يدفع التخويف من قبل العدوّ إلى التحرّك في مواجهة المستكبري،ن فالأمن الحقيقي والواقعي الدنيوي والأخروي رهنٌ باتّباع الدين وأوامر الله “فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. وهؤلاء المؤمنون المطيعون يرون أن الأمن يتوفّر في ظلّ حاكميّة الدين “وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنًا” وهذا الذي يحركهم باستمرار نحو الثورة بوجه الظلم طلبًا للعدالة، وحتّى أنهم لا يخافون من قلة العدد والعتاد وتفوّق العدوّ بل ما يخافون منه فعلًا هو الخروج عن العبودية لله عز وجل وترك ما أمرهم به. إذًا كيف يتحقق الأمن طبقًا لنص القرآن؟ “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ” فالأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتّى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معًا: الإِيمان والعدالة الاجتماعية، فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة الاجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان، كذلك، يتحقّق الأمن من خلال التوحيد وعدم الشرك بالله والالتزام بمسؤوليات الإيمان التي في أولها رفض العبودية لغير الله والثورة في وجه الطاغوت.

فكل ما يسعى إليه الأعداء من إدخال أهل الإيمان في دائرة الخوف يأتي بنتائج عكسيّة ” الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”. أما الإسلاميون المرضى الذين تربّوا في حضن الأهواء وبيوت الظالمين فيقعون في الفخّ ويتخّذون اليهود أولياء ويقولون ” َخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ”.
حسنًا، حينما ينقشع الغبار وتظهر الحقيقة لا بدّ من القول إنه إذا كان الناس عبادًا لله، يؤمنون برسالة الأنبياء ويسيرون في طريق الأولياء، فأولئك هم حزب الله، وهؤلاء يَغلِبون حتمًا “وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ”، أما شذاذ الآفاق الذين يملأ الخوف وجودهم فإنهم ينحدرون إلى الزوال بلا هوادة وإن غدًا لناظره قريب.
“..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ”.