جدال حصريّة السّلاح والموقف الأمريكيّ

محمد علي | خاص الناشر

لقد اتّضح، لا سيّما بعد خروج نتائج الحرب الأخيرة من وراء غبار سرديّات الإعلام التّابع للوصاية الأمريكيّة على لبنان، أنّ هدف العدوّ الصّهيونيّ من عدوانه كان أوسع من القضاء على المقاومة، فهو كان في إطار إنجاز مخطّط تغيير وجه الشّرق الأوسط. وإنّما الذي استثنى لبنان من تحوّلات المنطقة هو المقاومة، بشبابها المجاهدين المدافعين عن أرضهم وأعراضهم، وبيئتها الصّابرة الوفيّة بكافّة طبقاتها وخلفيّاتها. وهذا ما فاجأ من كان يعبّر بوقاحته المعتادة عن رهانه على العدوّ الصّهيونيّ، الأمر الذي أعاد جدال حصريّة السّلاح بيد الدّولة إلى واجهة الخطاب السّياسيّ العامّ بعد افتضاح أكذوبة “انتهاء الحزب” وتدمير قدراته.

وفي حين أنّ البعض يطالب الدّولة بنزع سلاح المقاومة، فإنّ رئيس الجمهوريّة جوزاف عون قد أكّد في أكثر من مناسبة أنّ تنفيذ قرار احتكار السّلاح بيد الدّولة “يكون بالحوار وبعيدًا عن القوّة”.

أمّا الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فإنّ موقفها من سلاح المقاومة غير خفيّ، ولا داعي لبسط الكلام من أجل تحليله؛ لكن تجدر الإشارة إلى أنّ في موقفها ازدواجيّة صارخة، إذ إنّ السّياسة الدّاخليّة للولايات المتّحدة تعبّر عن نظرة متباينة. ففي أمريكا، يُعدّ حمل السّلاح حقًّا محميًّا بموجب التّعديل الثّاني للدّستور الأمريكيّ. وتوجد عدّة ميليشيات مسلّحة إضافةً إلى المواطنين المسلّحين. بل يُصوّر هذا الأمر على أنّه أمارة على الوعي السّياسيّ والثّقافيّ. قال الرّئيس الأمريكيّ السّابق جيمس ماديسون: “إنّ أفضل وأكثر أنواع الدّفاع طبيعيّةً عن الوطن الحرّ هو الميليشيا المنظّمة بشكل جيّد والمكوّنة من جسم الشّعب والمدرّبة على استخدام السّلاح”. واعتبرها الرّئيس السّابق توماس جيفيرسون “أفضل مصدر للأمن”. والسّبب في ذلك يعود إلى ما يمثّل عدم حصر السّلاح بيد الدّولة من قيمة ديمقراطيّة حيث يشكّل الشّعب المسلّح قوّة مانعة من الاستبداد المحتمل من قِبل الدّولة من جهة، وعمقًا استراتيجيًّا للأمن القوميّ في مواجهة العدوّ الخارجيّ من جهة أُخرى. وبالجملة، فالسّلاح خارج نطاق الدّولة يُعزّز أمنها القوميّ، ولا يضعفه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على سوء نوايا الولايات المتّحدة اتّجاه لبنان، لأنّ الدّعوة الأمريكيّة لنزع السّلاح ومحاولاتها الكثيرة لتشجيع الجيش اللّبنانيّ على الدّخول في مواجهة ضدّ المقاومة لا تهدف إلى تعزيز الاستقرار كما يدّعون، وإنّما تهدف إلى إلغاء قوّة فعليّة تشكّل رادعًا استراتيجيًّا أمام الطّموحات الاسرائيليّة الإقليميّة. فحزب الله يمثّل ورقة قوّة للبنان، وسلاحه داخل في الاستراتيجيا الدّفاعيّة سواءً خُطّ ذلك بالحبر على الورق أم لا، بحكم اتّفاق الدّولة اللّبنانيّة والمقاومة على وحدة الأراضي اللّبنانيّة ووجوب حمايتها من العدوّ الإسرائيليّ، وفقًا للدّستور والعقيدة العسكريّة للجيش اللّبنانيّ وخطاب القسم للرّئيس عون. ولهذا فعندما تضغط أمريكا على لبنان لحصر السّلاح بيد الدّولة، فإنّها تسعى في الواقع لإضعاف لبنان أمام المشروع الصّهيونيّ التَّوسُّعيِّ.

ولا ينفع الاعتراض بأنّ مثال عدم حصريّة السّلاح بيد الدّولة في أمريكا غير قابل للتّطبيق في لبنان لأنّها من الدّول الهشّة، فإنّ الولايات المتّحدة تتحمّل جزءًا كبيرًا من مسؤوليّة إضعاف الدّولة من خلال تدخّلاتها السّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة وغيرها؛ الأمر الذي ينافي الغرض المزعوم من اهتمامها بالشّؤون اللّبنانيّة، إذ لا سيادة ولا حُرِّيَّة ولا استقلال في القبول بالوصاية ولوازمها. وأبسط مثال على ذلك دور الولايات المتّحدة في الحدّ من قدرات الجيش اللّبنانيّ ومنعه من تطوير إمكاناته لئلّا يصبح قوّة غير خاضعة للهيمنة العسكريّة الصّهيونيّة في المنطقة، الأمر الذي تعتبره الولايات المتّحدة أولويّة استراتيجيّة كما لا يخفى. ولا عجب في ذلك بعد أن كانت الإدارات الأمريكيّة تؤكّد دومًا أنّه “ينبغي للولايات المتّحدة أن تملك قوّة غير قابلة للمُساءلة وأن تحدّ من سيادة أيّ وطن يتدخّل في تصاميمها الكونيّة”، وكأنّنا من كون آخر.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى فإنّ كون الدّولة هشّة هو عين الدّليل على الحاجة إلى سلاح المقاومة، لأنّه يفسّر ظهور المبادرات والتّجارب المنبثقة من ضمير الشّعب وإدراكه لاحتياجاته، كما يتمّ مقاربة ذلك في بعض نظريّات علم الجريمة مثلًا، ولا تمثّل هذه المبادرات تحدّيًا للسّلطة على الإطلاق، بل تمثّل نموذجًا حقوقيًّا مكمّلًا، وتعويضًا عمليًّا لغياب السّلطة، وانعكاسًا لحكم العقول بلابُدِّيَّة الاستقرار بالرّغم من إهمال الدّولة والتّهميش المنهجيّ الذي قرّره التّاريخ وتؤكّده الأخبار بشكل يوميّ. أفهم أنّ تأكيد الرّئيس جوزاف عون على قضيّة حصريّة السّلاح ليس تهديدًا للمقاومة بقدر ما هو “روتين” يعتمده على قاعدة “إياكِ أعني واسمعي يا جارة”، لكنّه يلزم من تكرار “الطّمأنة” هذه طلبًا للرّضا رسوخ صفات لا تليق بدولة تريد إقناع الشّعب بانطلاق عهد جديد، فضلًا عن إقناعه بأنّها تملك قرارًا حُرًّا ومستقلًّا وجيشًا قادرًا على حماية لبنان.