مُذ بدأت القوات المسلحة اليمنية في عمليات الإسناد المباركة للمقاومة في غزّة بعد شنها هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الخالد ودخولها معركة طوفان الأقصى، اعتمدت إستراتيجية التدرج في التصعيد، وفي كلّ مرحلة من مراحل التصعيد كانت ترفع السقف وتوسع دائرة الأهداف، حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه، وهي تخوض المرحلة الخامسة من مراحل التصعيد والتي دشنتها باستهداف هدف عسكري حيوي للعدو في يافا المحتلة بالطائرة المسيّرة نوع “يافا” التي تم الإعلان عنها في تلك العملية.
فلم تدخل القوات المسلحة اليمنية المرحلة الخامسة من التصعيد إلا وقد أعدت العدة لهذه المرحلة الحساسة كما سابقاتها، فبعد تمكّن القوات البحرية اليمنية من المنع شبه الكلي للملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر والعربي وباب المندب، كنت اليمن تضع مطار “بن غوريون” ضمن دائرة الأهداف كأحد أهم الأهداف الإستراتيجية لأهميته الكبيرة كمطار رئيس يربط الكيان بالعالم الخارجي، لذلك بدأت القوات اليمنية في استهدافه. وهنا نستعرض أبرز العمليات التي استهدفته وآثارها على الملاحة الجوية.
الأولى في 28 أيلول/سبتمبر من العام الماضي، أثناء وصول طائرة رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو والتي بقيت محاصرة في الجو لبعض الوقت، الثانية في 27 كانون الأول/ديسمبر، وأدت إلى توقف مؤقت لحركة الملاحة الجوية، الثالثة في 31 كانون الأول/ديمسبر، استهدفت المطار ومحطة كهرباء جنوب القدس، الرابعة في 23 آذار/مارس من العام الجاري، وأدت إلى توقف الملاحة الجوية فيه لأكثر من نصف ساعة، الخامسة في 4 أيار/مايو الجاري حيث نفذت عملية عسكرية أدت إلى توقف الملاحة الجوية لأكثر من ساعتين، وفياليوم نفسه أعلنت القوات المسلحة اليمنية حصارًا جويًا شاملًا على كيان العدو.
وإذا أردنا قراءة وتحليل هذا التصعيد الكبير للقوات المسلحة اليمنية وأهميته، فإن التوقيت يأتي في المقدمة، حيث جاءت العملية اليمنية النوعية في توقيت حرج حيث تتّجه جميع الأنظار نحو تطوّرات توسيع العملية البرية في غزّة التي أعلن عنها العدوّ قبل يومين من العملية، أما الأمر الآخر فقد جاءت الضربة بعد التصعيد الأميركي والبريطاني الأخير وارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين في صنعاء وصعدة والحديدة، وتنفيذ مئات الغارات الجوية الإجرامية، وقد اعتقد الأميركي واهمًا أنه قد فرض قوة ردع أمام القيادة اليمنية وأنها لن ترغب في التصعيد أكثر.
لكن جاءت الضربة اليمنية المزلزلة والضربات التي سبقتها، والضربة الأخرى التي أتت بعدها يوم الجمعة، واستهدفت ذات المطار “بن غوريون” بصاروخ فرط صوتي، وفشلت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأميركية في اعتراضه وحقق هدفه بنجاح وفق بيان القوات المسلحة اليمنية، لتقول صنعاء للعدو “الإسرائيلي” والأميركي والبريطاني إن التراجع غير وراد في اليمن ولا في قاموس قيادته.
أما من الناحية العسكرية والتكتيكية، فإن القوات المسلحة اليمنية تعتمد إستراتيجية الكيف لا الكم، وهذا واضح من خلال عملياتها فهي لا تطلق فيها أعدادًا كبيرة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، بل تعتمد على النوعية والأعداد القليلة وبما يتناسب مع الهدف المستهدف، وذات الأمر ينطبق على الأهداف المستهدفة والتي يتم انتقاؤها بدقة عالية وفق دراسة استخباراتية معمقة.
وأثبتت هذه الإستراتيجية المتبعة فعاليتها ونجاحها في تحقيق الوصول إلى الأهداف التي يتم استهدافها، لكن الجديد في عملية الرابع من أيار/مايو الجاري، هو اعتراف العدوّ بوصول الصاروخ اليمني إلى محيط مطار اللدّ المسمى “مطار بن غوريون”، وفشل دفاعاتهم الجوية المتطورة في الاعتراض، وظهور عشرات مقاطع الفيديو التي توثق عملية السقوط والانفجار وما خلفه من آثار ودمار كبير في محيط المطار.
وهذا الإنجاز الكبير، ضربة مؤلمة للعدو الإسرائيلي، وصفعة مدوية للعدو الأميركي ولأسطوله في البحر الأحمر، الذي يضم غواصة نووية وحاملة طائراته التي تحمل على ظهرها أكثر من 200 طائرة مقاتلة، وكشف عن تطوّر إستراتيجي كبير في القدرات العسكرية اليمنية حيث تمكّنت صواريخها من تجاوز أحدث منظومات الدفاع الجوية الأميركية والإسرائيلية من (قبة حديدية، مقلاع داود، حيتس 1-2-3، ثاد)، وهذا التفوق اليمني يسقط هيبة أسطورة التفوق الإسرائيلي، ويؤسس لتثبيت قواعد اشتباك جديدة.
أما النتائج الملموسة للعملية، فمن وجهة نظري الشخصية فإن أهمها هو بداية إسقاط هالة التفوق للأميركي و”الإسرائيلي” التي حاولوا ترسيخها عبر الآلة الإعلامية عبر عقود طويلة من الزمن، والإغلاق لـ “مطار بن غوريون” وتوقيف الملاحة فيه لساعات، وتعليق عدد من شركات الطيران رحلاتها إلى المطار، وتكبيده خسائر ضخمة، أما الخسائر البشرية فإن العدوّ اعترف بإصابة ثمانية أشخاص. وكما هو معروف فهو لا يعترف بالحقيقة لذلك فصرعاه أكبر من هذا الرقم بكثير، ودخول أكثر من 3 ملايين من قطعانه إلى الملاجئ، أما الأهم في الضربات اليمنية فهو خروج “كيان العدوّ وقادته” من مرحلة الإنكار إلى مرحلة الاعتراف بتأثير تلك الضربات على كافة الأصعدة.
في المقلب الآخر وبينما كان العدوّ “الإسرائيلي” يراهن على أميركا في تحييد الجبهة اليمنية لأجل أن يتفرغ لمواصلة إجرامه في غزّة، كانت المفاجأة بإعلان وزارة الخارجية العمانية أن “جهود السلطنة أسفرت عن التوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة الأميركية والسلطات المعنية في صنعاء في الجمهورية اليمنية بهدف تحقيق خفض التصعيد”، فقد رأت “تل أبيب” الاتفاق بين واشنطن وصنعاء تخليًا عنها خصوصًا والاتفاق جاء بعد ما يقارب الشهرين من العدوان الأميركي على اليمن الذي كانوا يراهنون عليه في تحييد الجبهة اليمنية وإيقافها، لكن ما حدث هو العكس فمع التصعيد الأميركي تضاعفت العمليات اليمنية وأصبحت أكثر جرأة وأكبر فتكًا، والشاهد على ذلك هو عندما كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن عن وقف العدوان على اليمن، كانت القوات المسلحة اليمنية تهاجم حاملة طائراته والقطع البحرية التابعة لها، وتسقط طائرة F – 18، هو ما أعلنت عنه القوات المسلحة اليمنية في بيانها في اليوم التالي عقب إعلان الاتفاق الأميركي اليمني، وأكد البيان أنه إن عادت الضربات الأميركية عادوا، وأن منع الملاحة البحرية الإسرائيلية، والحظر الجوي على مطار “اللد” (بن غوريون)، واستهداف العمق “الإسرائيلي” مستمر دعمًا لغزّة وحتّى وقف العدوان عليها ورفع الحصار.
أما عن الإرهاصات التي أدت إلى سعي واشنطن للاتفاق مع صنعاء فهو بعد عجزها عن تحقيق أي من أهدافها التي أعلنتها، وما يؤكد ذلك هو ما نقلته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية من أن “هجمات اليمن كانت فعالة للغاية في البحر الأحمر خاصة ضدّ الملاحة “الإسرائيلية”، وأن “الحوثيين” لم يقدموا أي تنازل في الاتفاق بل جاء وفق شروطهم التي أعلنوا عنها منذ البداية، مؤكدًا أن الحملة الأميركية ضدّ اليمن بائت بالفشل، وأضافت أن الضربات الجوية كانت مكلّفة للغاية وجلبت معها مخاطر جسيمة بما في ذلك احتمال مقتل جنود أميركيين، وكشفت أن واشنطن خرجت من الحملة الجوية تحت الضغط بسبب الكُلفة العالية للعملية وخشية التورط في حرب مفتوحة”.
لذلك فالاتفاق يعدّ انتصارا لصنعاء، ونجاحًا للدبلوماسية اليمنية المستندة إلى القوّة العسكرية لقواتها المسلحة، والذي من خلاله تمكّنت صنعاء من إرغام واشنطن على الاتفاق من دون تخليها عن معركة الإسناد لغزّة، لأنّ “القوات المسلحة اليمنية كانت تؤكد، في بيانات عملياتها ضدّ البوارج الأميركية، أن تلك العمليات جاءت ردًا على العدوان الأميركي الذي يهدف إلى إيقاف إسناد اليمن لغزّة”، ويعد الاتفاق أيضًا ضربة قوية لرؤية ترامب التي تنص على “تحقيق السلام من خلال القوّة”.
أما عن رؤية القيادة اليمنية للاتفاق ومدى جدية الأميركي في ذلك، فقد قال محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى، إن هذا الإعلان “سيُقيّم ميدانيًا أولًا”، لكنّه في الوقت ذاته اعتبره “انتصارًا يفصل الدعم الأميركي عن الكيان المؤقت”، واصفًا ذلك بأنه “فشل لرئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، وعليه أن يقدم استقالته”.
لذلك إلى جانب ما مثله الاتفاق الأميركي اليمني من ضربة غير متوقعة للكيان، إلا أن أخطر ما فيه هو أنه منح الجانب اليمني التفرغ التام وتكثيف جهوده في جبهة واحدة ضدّ الكيان، لذا استمرت القوات المسلحة اليمنية في ضرباتها التصعيدية لعمق كيان العدو، وبدأت فرض الحظر الجوي على مطارات الكيان، حيث عاودت استهداف مطار “بن غوريون” وأخرى استهدفت مطار “رامون”، وعمليات أخرى استهدفت أهدافًا حيوية متفرقة في الكيان وكلّ هذه العمليات بعد الاتفاق بين الجانبين، وجددت القوات المسلحة اليمنية تحذيرها لشركات الطيران التي لم تستجب لقرار الحظر بأن عليها سرعة وقف رحلاتِها الجوية إلى فلسطينَ المحتلة كما فعلت بقية الشركات الأخرى.
وأمام هذا التصعيد اليمني، قام كيان العدوّ بشنّ عدوان جويّ على العاصمة صنعاء، استهدف مطارها المدني “مطار صنعاء الدولي” ومحطات الكهرباء، ومصانع الاسمنت في محافظات متفرقة، بالإضافة إلى استهداف ميناء الحديدة وميناء رأس عيسى بمحافظة الحديدة الساحلية.
جاء هذا التصعيد “الإسرائيلي” في استهداف الأعيان المدنية اليمنية في محاولة لاستعادة صورته المهشمة أمام جمهوره في الداخل عقب العمليات العسكرية اليمنية التي أدت إلى أن توقف عشرات شركات الطيران رحلاتها من وإلى الكيان، حيث تحدث موقع والا العبري عن “تراجع عدد الرحلات في مطار بن غوريون اليوم بنسبة 34% وعدد المسافرين بنسبة 26% بسبب الصواريخ التي تطلق من اليمن”، وتنقل وسائل إعلام العدوّ تلك المخاوف من استمرار بقاء الحظر الجوي اليمني وتزايد شركات الطيران التي تلغي رحلاتها من وإلى الكيان، حيث قالت القناة 12 العبرية إن “الوضع في المطارات “الإسرائيلية” يزداد تعقيدًا، و”الحوثيون” يسعون لفرض حصار جوي على “إسرائيل”، وإن الهجوم على مطار “بن غوريون” الجمعة الماضية أثار تساؤلات جادة حول إمكانية استمرار شركات الطيران، وإن تعليق الرحلات إلى مطار “بن غوريون” حدث “سياسي – اقتصادي” قد يؤثر على موسم الطيران بأكمله، وأما ما يشغل “المواطنين” بشكل أكبر فهو ارتفاع الأسعار، ليس في قطاع الطيران فقط، بل في جميع المجالات، مؤكدةً أن رسائل الصواريخ من اليمن تأتي بصياغة متقنة في “لغة الطيران” وموجهة إلى شركات الطيران الأجنبية، مستعرضة الخسائر الكبيرة في ظل استمرار تعليق شركات الطيران لرحلاتها حيث قالت إن إلغاء شركة “ويز” للطيران رحلاتها يعني إلغاء 10 رحلات يومية من وإلى “تل أبيب” وإلغاء آلاف التذاكر أسبوعيًا”.
وهذه الإشارة السريعة إلى تصريحات إعلام العدوّ تكشف لنا الأهمية الكبرى للقرار اليمني بحظر الملاحة الجوية في أجواء فلسطين المحتلة كاملة، وما يمثله هذا القرار الإستراتيجي الهام من تداعيات اقتصادية وسياسية كبرى، حيث يعد ضربة قاسية للاقتصاد “الإسرائيلي” الذي يعتمد على موسم الصيف للسياحة، أما على الصعيد العسكري قد كشفت العمليات اليمنية عن مدى هشاشة المنظومة الدفاعية الإسرائيلية التي ظل العدوّ يتشدق بها لعقود، خصوصًا بعد التسريبات التي تتحدث عن أن الكيان يمتلك 9 أنظمة دفاع جوي وليس 4 “القبة الحديدية، مقلاع داوود، حيتس وثاد”، وأن المنظومات الأخرى الخمسة لم يتم الإعلان عن تفعيلها ولكنها تُوظف ميدانيًا في مواجهة الصواريخ اليمنية.
وأمام ما سبق يبرز اليمن كلاعب عسكري مؤثر في المعادلة الإقليمية، حيث تثبت القوات المسلحة اليمنية أن الضربة على مطار بن غوريون بداية لمرحلة جديدة من التصعيد تتسع مفاجآتها المستمرة والتي تبدو الأيام القادمة حبلى بالكثير منها كما عودتنا، وأنها مستمرة في تصعيدها حتّى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزّة.