البصيرة كتقنية وفن

في اللغة الإنجليزية تستخدم كلمة البصيرة بكثافة في التحليل السياسي. مفردة insight تعبر عن نفاذ البصيرة، وتستخدم في الجمع عندما تصف مجموعة من الأفكار أو النصائح أو التحليلات السياسية باعتبارها استنتاجات معمقة. هي مستوى من الفهم العميق الذي يكشف الالتباسات المعتادة ويبين التشابك القائم في الصراعات السياسية ويحمي من الخداع الذي تعتمد عليه السياسة غير الأخلاقية.

هناك تداول كبير حول هذه المفردة حاليًا، البعض يتعامل معها على أنها أمر سلبي وغامض وغير مفهوم، أو على أنها تعبير عن فكرة أيديولوجية مسبقة، أو أنها تعني الإغفال والتغاضي عن التحديات الجارية، خصوصًا وأنها تردف بمفردة الصبر، التي هي الأخرى أصبحت متداولة في السياسة الدولية على أعلى المستويات، تحت عنوان الصبر الإستراتيجي، بمعنى الصبر البعيد المدى الذي يمكن التعويل عليه إلى أن تحين المتغيرات المناسبة للقيام بالتحرك أو استثمار التغير.

من الناحية العملية، لهذه المفردة دور أساسي في الحياة السياسية، وهي تعبر عن مجموعة كبيرة من المفردات الأخرى التي ترادفها في المعنى. الحياة السياسية تتطلب التبصر والتعميق والتأني في فهم الحالات المختلفة والتحولات والظواهر والخطابات والسلوكيات، لأنها ساحة صراع، وفي ساحة الصراع تسود حالات الخداع والتعمية والتضليل، وتكثر التحولات والتقلبات والمفاجآت غير المتوقعة. من دون التبصر، أي من دون الفهم الواقعي لما يحصل فعليًا، يتحول الإنسان إلى ضحية لهذه الساحة بخصائصها المعقدة.

للبصيرة السليمة والفهم الصحيح أسس ومقدمات معنوية وروحية وأخلاقية، فمن الضروري تحرير العقل من التسرع والطمع والغضب والإنفعال، حتى يتمكن من الرؤية بشكل صحيح، ويتاح له الوقت للتأمل والبحث والتدقيق، لكن في هذه العجالة سأتحدث، كما يدل العنوان، على الجوانب العملية للبصيرة حصرًا، حيث يمكن الحديث عن مجالات واسعة تقع تحت هذه المفردة، فعندما نتناول “الفهم” نكون أمام قضايا ومسائل شديدة التنوع، لكن سأوجز هذه المسألة وأختصرها تحت خمسة عناوين: المصلحة، التوقيت، القائد، الممكن، الخطر.

تشخيص المصلحة: وهي القضية التي تشتغل عليها وتسعى لتحقيقها في زمن معين وحالة معينة، وهي تشكل ما يستحق الجهد والسعي وأحيانًا التنازل أو التضحية، تحديد ما هو ضروري وما يستحق، وتحديد ما يقع تحت دائرة الحق، هو مقدمة لا مناص منها للعمل، فقد يكون لدي الكثير من الحاجات والطموحات، لكن المصلحة تحدد الأولوية والضرورة، وأحيانًا تحدد مجموعة أولويات وليس أولوية واحدة، وحينها ينبغي تحديد حجم كل أولوية وترتيب كل أولوية على الثانية، فقد يكون تحقيق إحداها يقوم على حساب الأخرى، فحينها ينبغي حساب إمكانية التوفيق بينهما ومحاولة الجمع، أو التنازل والتضحية عن إحداها لصالح الأخرى.

تشخيص التوقيت: الوقت متصل بالفعل سواءً كان كلامًا أو سلوكًا يتعلق بالسياسة والشأن العام، فالفعل في مجال تفاعلي غير الفعل في ساحة خالية، فينبغي تحديد الوقت المناسب لأي تصرف، بما يخدم المصلحة وترتيب الأولويات، فكل عمل له آثار جانبية وتداعيات سلبية، ينبغي الالتفات إليها. من ناحية أخرى التوقيت يتعلق بردود أفعال الآخرين، الجهات السياسية، وكيفية تفاعلها مع سلوكك، فلا يكفي أن أنظر إلى ما أقوم به، بل عليّ أن أعرف كيف سيتصرف من هو في المقابل: الحليف، الشريك، الخصم، العدو. فقد تقوم القوى السياسية في أحيان كثيرة بأفعال سليمة وصحيحة من حيث إنها ضرورية ومحقة وفعالة، لكنها لا تنظر إلى ردود الفعل وبالتالي تذهب إلى الفشل.

تشخيص القائد: الحقوق الجماعية يتم تحصيلها من خلال عمل جماعي، والعمل الجماعي يحتاج للتنظيم، سواءٌ كان دفاعًا عن الأرض أو عن الحقوق الاجتماعية والمعاشية، فهذا يحتاج إلى قائد ينظم عمل الجماعة، وحين تتسع الجماعة وتصبح شعبًا وجمهورًا، يصبح من الضروري أن يشمل الفهم حركة وسلوك القائد، فإن كان قليل الثقة متقلب المواقف ضعيف الحجة، أصبح الحذر واجبًا والتأني ضروريًا، لكن إن كان يمتلك التجربة الكافية والمصداقية ولديه من المواقف ما يعبر عن طريقته في اتخاذ القرار، ورصيده الأخلاقي والعاطفي الضروري، يصبح القائد مسهلًا للوصول إلى الهدف بشكل هائل، لأن العمل الجماعي المستند إلى قائد كفؤ وحكيم وذي مصداقية، يحول الجماعة إلى كيان فعال وحيوي، ويستطيع أن يعتمد على قائد ومؤسسة قيادية تستطيع أن تحل مشاكل الفهم والبصيرة والتحليل بشكل يكفي لتحمل المسؤولية. فلو حاول الإنسان العادي وحده أن يحل مشكلات الفهم والبصيرة، ويستخدم تلك التقنية بشكل عالي الدقة بحيث تخرج الاستنتاجات مأمونة إلى حد كبير، فسوف يواجه الكثير من المعضلات.

تشخيص الممكن: أول مهمة لمن يريد أن يشارك في السياسة والمطالب العامة والضرورات الكلية، أن يعرف ما هو ممكن، فخارج الممكن ليس هناك إلا الوهم والأزمات والإحباطات وكذلك ردود الفعل القاسية جدًا من الجهات السياسية الأخرى. مضافًا إلى ضرورة معرفة الممكن، تأتي في الدرجة الثانية معرفة كيفية الوصول إلى هذا الممكن بأقل التكاليف والحد الأدنى من الخسائر، ومن ثم تحديد التضحية الضرورية لتحقيقه.

تشخيص الخطر: تمتلئ الحياة السياسية بالمخاطر، ساحة صراع وتنافس شديد، تصبح الأسلحة مباحة والأساليب غير الأخلاقية مشرعة، وتلجأ الكثير من الجهات السياسية إلى اعتماد المباغتة والمفاجأة، لاستثمار المتغيرات أو لتحقيق أفضل ما يمكن من الإنجاز، ولذلك عند السير نحو غاية معينة أو لتحقيق مصلحة محددة، لا بد من النظر إلى المخاطر، فقد تكون الطريق مليئة بالأفخاخ والكمائن، وتتحرك القوى الانتهازية لكي تنقض عليك بغض النظر عن اصطدامك بها أو ارتباط حركتك بمصالحها، إلا أنها سوف تتحرك في النهاية حين تجدك في مكان مناسب للانقضاض. بعد تشخيص المخاطر، يمكن التفكير في كيفية تفاديها، أو الالتفاف عليها، أو تأجيل التحرك أو تغيير المسار.

بهذا الإيجاز، نساهم في تطوير النظرة إلى هذا المفهوم، ومن خلاله تطوير السلوك الفردي في المجال السياسي، بما يجعلنا نستفيد من جهودنا الجماعية وتنظيمها لتصب في خدمة تحقيق الأهداف وتحصيل الضرورات والحقوق، عسى أن يتاح الوقت لاحقًا للتأمل بشكل أعمق، والتعرض لجوانب أوسع من التقنية والفن.

صبر وبصيرةهام