المقاومة في لبنان واتّجاهات النهوض المتجدد

ليس ثمة شيء أقسى من الخسارة، إلا أن تُقنع المقاومة نفسها، وفي عمق وعيها أنها غارقة لا محالة، وأنها لا يمكن أن تستعيد وهجها، وأن خسارتها الجزئية، أضحت كلية، وكأنه لا يليق بها إلا الوضع المثالي، وليس من أوضاع يُمكن أن تمر عليها، تكون فيها بوضع لا يُحسد عليه في زاوية، وفي زوايا أخرى ما زالت تمتلك الهائل من الموارد، لدرجة أن العدوّ ومعه عملاؤه، لا ينفكون عن إرسال الرسائل اللحظوية، بأنها انتهت وخسرت ويجب سحقها.

ما من سبب يجعل الأعداء يستهدفون المقاومة وبيئتها بهذا الشكل المنهجي، سوى علمهم بقدرات موجودة وكامنة، يخافون استثمارها، فتعيدهم إلى المربع الأول، ليخسروا كلّ ما تم إنجازه، من قضاءٍ على القادة، وجمع من الشباب، وضرب جزء يعتد به من القدرات.

والسؤال هنا، كيف يمكن للمقاومة أن تستعيد الردع في ظل المتغيرات على الصعيد الإستراتيجي، والتي أفرزتها المواجهة مع الغرب وبعض العرب، ولا يحمل الأمر أي صيغة مبالغة، ونحن على موقفنا بأن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت، ولذا تداعى لها كلّ الغرب الناتوي، وبعض العرب الجاهلي، في معركتها مع لبنان. وهل لنا هذه القدرة على الوقوف مجددًا بما يضمن لنا تعادل الرعب مع العدوّ الصهيوني؟.

تبرز في هذا السياق، ثلاثة اتّجاهات، يمثل كلّ منها إستراتيجية ترعب الكيان، فكيف إذا اجتمعت مع بعضها بعضًا لتشكّل السلاح الأمضى، والأشد فتكًا في الصراع؟ هذا مع عدم إغفال مكامن إضافية في عملية صناعة القدرات، ويمكن مناقشتها تباعًا في موارد أخرى.

الاتّجاه الأول، هو التركيز على الروحية، الروحية التي تشكّل فردًا يثبت في أرض المعركة كشجرة تغرس جذورها في الأرض، فلا تتراجع إلا بقطعها، وهذا النوع من الروحية القتالية، خبره الإسرائيلي، ويهابه، وما طلبه وقف الحرب، إلا درءًا لخسائر على الجبهة لم يعد يحتملها، بالإضافة إلى خسائر في الداخل بفعل الصواريخ الكاسرة للردع المقابل. وتتطلب هذه الإستراتيجية، إعادة اختراع المنظمة، بعيدًا عن العقلية الحزبية النمطية (ويمكن إفراد بحث خاص بهذا المجال)، والتحول إلى أسلوب فرق العمل المدارة ذاتيًا، على سبيل المثال، وتجنب أمراض البيروقراطية والمركزية الشديدة المقيتة للإدارة، لنتمكّن من استثمار الطاقات بهدف إعداد الأفراد الحاملين لهذه الروحية، بعيدًا عن تعقيدات العمل التنظيمي.

الاتّجاه الثاني: الغموض البنّاء، ما يقلق العدوّ الإسرائيلي، ويبقيه في دائرة التوتر، انعدام قدرته على جمع المعلومات، ومن المعروف أن هذا العدوّ يفرز ميزانية سنوية بمليارات الدولارات، على قضايا التجسس، وتطوير تكنولوجيا جمع المعلومات، والاتّصالات، والتجنيد، وغيره. ولا يمكن أن نجاريه تكنولوجيًا في المدى المنظور، وهذا ليس بعيبٍ عندنا، وهو يستفيد من أهم وسائل تكنولوجيا الدول الداعمة له، بدءًا من أميركا. ويتطلب أمر المواجهة، البحث في ثغرات هذه التكنولوجيا، والعودة إلى البدائية في العمل ما أمكن. فلا هواتف، ولا وسائل تواصل، ولا نقاشات واستدعاءات ولا أحاديث ولا توجيهات، وغياب القادة عن صدارة المشهد والاكتفاء ببيانات مقتضبة، وعدم الانسياق وراء الاستفزازات التي يُراد منها تجميع المعلومات، ولا استعراض القوى والقدرات، والاكتفاء بمدنيين في مراسم تشييع الشهداء والقادة (إلغاء التوديع من قبل رفاق الاختصاص والدرب)، الخروج من الشكل الخارجي المتدين عند أفراد المقاومة إلى صورة الشخص العادي، الخ..، وترك العدوّ في حيرة تكهن أين المقاومة؟ وماذا تفعل؟ وما هي قدراتها؟. وهذا يتطلب أيضًا من البيئة الصبر على هذا الغموض، لأن أي معلومة يتم تداولها بين البيئة، ولو بأعدادٍ محصورة، فهي حكمًا عند العدو.

الاتّجاه الثالث: سلاح الديمغرافيا: يُدرك جيدًا العدوّ وعملاؤه، حجم المأزق الذي يعيشونه، بسبب تزايد السكان في البيئات المناوئة لهم، خصوصًا في فلسطين، ودول الطوق، وعلى الصعيد الفلسطيني تشكّلَ هذا السلاح في عمق وعيهم، وتم تسييله عمليًا، حتّى أن هناك إحصاءات موثوقة، تصرح بأن غزّة شهدت ولادة خمسين ألف طفلٍ، منذ السابع من أكتوبر حتّى شباط المنصرم، ونحن في لبنان نحتاج هذا السلاح، لإعادة إنتاج أجيال تردم خسارتنا من الرجال والنساء بسبب أتون هذا الصراع، وليكون مصدرًا للموارد البشرية المتخصصة في كلّ المجالات، وتثبيتًا للوجود السياسي. وهذا يجب أن يدفع باتّجاه الخروج من التنميط الحياتي، والأطر التي تقيد شبابنا وتمنعهم من الزواج، ويتطلب التزام قيادة المقاومة بهذا السلاح (يمكن أن تجير الكثير من الإمكانات في دول قد تساهم)، حتّى في ظل ظروف اقتصادية تُعتبر صعبة، إذا ما أضيف لها التنميط المذكور آنفًا.

المقاومة ليست إطارًا تنظيميًا فقط، هي فكرة وعقيدة ودرب تحرر، هي تبني لسرديات المظلوم في وجه أباطيل الظالم، هي مسؤولية إنسانية كبيرة وعلينا جميعًا، بدءًا من القيادة وليس انتهاءً بكلّ فرد من البيئة الشريفة العابرة للطوائف والمذاهب، حيث الانتماء هو “مقاوم ضدّ الظلم والاستعمار”. وكلّ من يستطيع المساهمة في هذه الاتّجاهات، يجب أن يقدم، حتّى إن كان بسيطًا، فالمعركة لم تعد على خريطة الإنجازات، إنما هي حرب وجود.