سام نوح | خاص الناشر
في خضم تعقيدات المشهد السوري، يبرز موقف الإدارة الجديدة في سورية بقيادة الجولاني تجاه “إسرائيل” كإشارة واضحة لتحولات إستراتيجية لا يمكن تجاهلها. فمن جماعة تقول إنها ثورية إلى طرف يغضّ الطرْف عن الاحتلال الصهيوني، وتتكشف أبعاد سياسية جديدة تتجاوز الشعارات الثورية، لتتمحور حول المصالح البراغماتية والتفاهمات غير المعلنة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
لكن السؤال الأهم الذي يتبادر إلى ذهن المتابع للتطورات الأخيرة على الساحة السورية هو: هل هذا السكوت مقايضة للبقاء، أم انعكاس لأجندات خارجية لا تعترف بالمصلحة الوطنية؟
وللإجابة عن السؤال لمعرفة حقيقة ما يجري، يمكن تلخص المشهد في عدة نقاط. النقطة الأولى، تبدو في مقايضة الصمت بالمكاسب السياسية والاقتصادية، حيث إن تجنب الهيئة مواجهة “إسرائيل” يكشف عن حسابات دقيقة تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية:
1 – رفع العقوبات وضمان البقاء، وعدم التصعيد ضدّ “إسرائيل” لأن ذلك يتيح للجماعة تقديم نفسها كطرف “واقعي” أمام الغرب، ما يمهّد لرفع العقوبات عنها وربما الاعتراف بها كسلطة أمر واقع.
2 – دعم غربي غير مباشر، يتمثل في “المساعدات الإنسانية” و”إعادة الإعمار” وما أشبه، ومواصلة التفاهمات غير المعلنة لأجل بقاء الوضع الراهن في الشمال السوري على ما هو مقابل تجنب أي مواجهة مع الاحتلال.
وهذا يثبت غياب أي رد فعل من الهيئة تجاه الاحتلال الذي توغل عشرات الكليومترات في الأراضي السورية، وكذلك الصمت عن الغارات الإسرائيلية المتكرّرة التي تستهدف كلّ مقدرات البلاد.
أما النقطة الثانية، فهي غياب المشروع الوطني وتبعية الأجندات الخارجية، حيث يكشف مشروع الهيئة أنها لا تملك رؤية وطنية حقيقية تكون السيادة الوطنية فيها هي الأساس المتين الذي يقوم عليه، بل يدور حول خدمة مصالح القوى الإقليمية، وهذا واضح من خلال الشواهد التالية:
1 – الرهان على الدعم الخليجي، من خلال لقاءات قيادة الهيئة مع الوفود الخليجية التي تركيز بشكل كبير على جذب الاستثمارات وإعادة الإعمار، بدلًا من أي نقاش حول استعادة السيادة السورية.
2 – التبعية لتركيا، فمن خلال الدعم التركي للجماعة تحولت إلى أداة سياسية تخدم الأجندة التركية، حيث باتت الهيئة جزءًا من ترتيبات أنقرة لضمان نفوذها في الشمال السوري.
أما النقطة الثالثة والأهم، فهي التطبيع الناعم مع كيان العدوّ وإضعاف المقاومة، وذلك من خلال التعامل مع الكيان من خلال أطراف إقليمية كتركيا وقطر، وهذا يُعد تحولًا خطيرًا للدولة صاحبة الإرث الكبير في مقاومة العدو ودعم المقاومة خلال عشرات العقود بل مُذ بدأ غرس هذا الكيان الغاصب في خاصرة منطقتنا العربية من قبل قوى الاستكبار العالمي.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التفاهمات التركية مع “إسرائيل” بشأن سورية، ودخول الهيئة في خطابات غير مباشرة تعكس قبولًا ضمنيًا لهذا الواقع، بالإضافة إلى الإضعاف للخطاب المقاوم، حيث باتت الهيئة تروج لخطاب “السلام الدبلوماسي” كبديل للمقاومة المسلحة، متماشية مع المواقف التركية والقطرية التي تسعى لتحجيم أي تحركات معادية لكيان العدو. الأمر الآخر، هو العمل الكبير في المستقبل للترويج للتنازلات الإسرائيلية الشكلية، إذ سيتم تصوير أي تنازل إسرائيلي بسيط كنجاح للدبلوماسية، في محاولة لإقناع الرأي العام بجدوى هذا النهج.
إذًا هو مشروع براغماتي يفتقد للسيادة، وإن سياسة الصمت التي تنتهجها هيئة الجولاني ليست مجرد خيار تكتيكي، بل انعكاس لمشروع سياسي يخدم الخارج على حساب الداخل، فبينما تلهث الجماعة وراء مكاسب وقتية، كالدعم المالي والاعتراف الغربي، يظل مشروعها بعيدًا عن أي فكرة سيادية تعيد للشعب السوري حقوقه.
لذلك يكشف لنا الواقع اليوم أن سورية بحاجة إلى مشروع وطني يُعلي من شأن السيادة والمقاومة، بعيدًا عن حسابات الصفقات العابرة، لأن المشاريع القائمة على التبعية مصيرها الزوال، مهما بدا نجاحها مؤقتًا.
*كاتب يمني