ندين النجار – خاص الناشر |
“لبنان والمنطقة في خطر وجودي، مسار جديد أصعب وأخطر من المسار السابق، المسار الجديد هو مسار تدمير وتحطيم وتهميش دول وجيوش وشعوب وكيانات وبناء خريطة جديدة على أشلاءٍ ممزقة ليس فقط أشلاء الأجساد، بل أشلاء دول ومجتمعات وشعوب، على الركام، وعقول تائهة ومحتارة نتيجة الأحداث وقلوب مرتعبة”.
كان هذا جزء من خطاب الأمين العام لحزب الله سيد الشهداء حسن نصر الله في العام 2014 بمناسبة الذكرى الثامنة لانتصار تموز 2006. يتابع السيد حسن نصر الله قائلًا: “يُراد أن نصل جميعًا إلى كارثة في المنطقة حتّى نقبل بكلّ الإملاءات حتّى يتحول العدوّ إلى المنقذ والمُخلص”. لم يذكر هذه العبارات عبثًا، أو بهدف صياغة خطاب سنوي منتظر يحمل العبارات المنمقة بمناسبة نصرٍ سبق وتحقق كحلقة ضمن سلسلة انتصارات متتابعة ومتتالية، بل في هذه الأسطر القليلة يظهر قائد نصر حقيقيًّا، يعتمد على مجموعة عوامل ومعطيات وخطة عمل واضحة ومحدّدة الأهداف، متيقنًا من حتمية النصر كنتيجةٍ لها، ومرشدًا لكل من سار معه في مسيرة المقاومة والكفاح المسلح.
كثيرةٌ كانت خطابات الأمين العام، وفيها الكلام يطول، ليس فقط بهدف تحرير الأرض، بل تحرير الإنسان أولًا.
من هنا، ننطلق للحديث عن أهمية الخطاب في تشكيل وعي الشعوب ودعوتهم إلى التمسك بقضاياهم والالتزام بتحقيق النصر فيها، متّخذين من خطاباته ومقابلاته نموذجًا فريدًا لقائد استثنائي في الحضور والغياب في تاريخ الصراع مع العدوّ الإسرائيلي.
تنبعُ أهمية أي خطاب سياسي، اجتماعي، ثقافي، يتم التوجّه فيه إلى جماعة معينة أو للشعوب بشكل عام على اعتبار أن الخطاب يشكّل مصدرًا للقواعد والمصالح والمعتقدات والسلوكيات. ومع تطوّر وتنامي مسالك الحروب مع قوى الاستعمار، يبرز الخطاب كأحد أقوى أدوات القوّة الناعمة في إطار الحرب الإعلامية والنفسية على الخصم.
في خطاب الأمين العام مجموعة عوامل أدت إلى جعله خطابًا متكاملًا قادرًا من خلاله على قيادة الشعوب حتّى بعد استشهاده، إذ يكفي أن يتابع الإنسان أيًا من الخطابات أو المقابلات السابقة، ليستطيع تكوين رؤية عن المستقبل القادم والسيناريوهات المتوقعة.
1 – القراءة الصحيحة أولًا
بُنيت خطابات السيد حسن نصر الله استنادًا إلى قراءة واضحة ودقيقة لكافة المجريات والظروف والمعادلات العربية والدولية، ومتابعة حثيثة للأحداث التاريخية للأمة والبشرية جمعاء، بهدف استخلاص خيارات واقعية تساهم في إيجاد وسائل حقيقية وجادة وواقعية لمواجهة الخطر الأميركي الإسرائيلي، دون الوقوع في فخ المبالغة والوهم أو اليأس والانهزام. كان الأمين العام ومعه كلّ حزب الله يتابع كافة التجارب السابقة للعرب في صراعاتهم مع العدوّ كتجربة الجيوش العربية وحركات المقاومة في فلسطين المحتلة ولبنان.
إضافةً إلى قراءة كلّ ما يصدر ويتعلق بالعدو الإسرائيلي وشركائه بهدف صياغة صورة واضحة المعالم عن مستقبل المنطقة. وفي مقابلة له عبر شاشة الميادين مع الإعلامي سامي كليب في العام 2017 تحدث الأمين العام عن المعركة القادمة والحرب التي ينوي العدوّ الإسرائيلي شنها على دول وحركات محور المقاومة، محذرًا من مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يتم تحضيره للمنطقة، مؤكدًا على جهوزية المحور للتصدي لهذا المشروع. كان حينها على علم بكلّ ما سيجري في السنوات القادمة، ممتلكًا يقينًا بحتمية النصر. فيما سبق ردٌ على من وصف قراءة حزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران للتحولات والأحداث في المنطقة بـ”الخاطئة”، فالقراءة هي ميزة حزب الله وعنصر أساسي في نجاحه كنموذج حركة مقاومة، ولا تقتصر هذه الميزة على قيادة المقاومة حصرًا، بل كان السيد حسن نصر الله يدعو الجمهور في العديد من خطاباته إلى القراءة والمتابعة والوعي والبصيرة معتبرًا أن “جمهور المقاومة بشكل خاص في هذه المرحلة معني أكثر بالوعي والفهم وقراءة التصريحات والبيانات والبصيرة”، وذلك في خطاب له عام 2019 بمناسبة يوم الشهيد.
2 – خطة واضحة العناصر
لا نكبة ثانية للشعب اللبناني وشعوب المنطقة، فزمن الشهيد السيد حسن نصر الله مختلف، بعد القراءة الدقيقة، تأتي مرحلة وضع خطة واضحة العناصر والمباشرة في تنفيذها لمواجهة التهديد، فبحسب السيد “الكفاح المسلح والتحرير هو الحل الوحيد الذي تم التوصل إليه منذ بدء النكبة، لا المجتمع الدولي ولا المؤسسات”. أكد أن الخيار العسكري هو الأساس في المواجهة في الميدان الذي يظهر قدرات المقاومة على ردع العدوّ وإفشال مخطّطاته ومنع من تحقيق أهدافه الاستعمارية.
من عناصر الخطة لتحقيق النصر، وجود الداعمين وشركاء النصر، وفي كلّ خطاباته، يوجه السيد الشكر للدول الداعمة وعلى رأسها إيران وسورية، ولكل حركات المقاومة في فلسطين المحتلة واليمن والعراق الذين يؤكد أنهم على أتم الجهوزية لمواجهة مخطّط “الشرق الأوسط الجديد” كلٌّ بحسب إمكاناته وموقعه في محور المقاومة.
ويوجه الشكر أيضًا لأساس النصر، الشهداء الذين صنعوا الانتصارات السابقة ومهدت دماؤهم درب الانتصار القادم على طريق القدس، فلا هزيمة في ارتقاء القادة شهداء، بل حمل دمائهم والمضي في الطريق. لم نكن نعلم من هو الحاج الشهيد عماد مغنية، ولا القائد الشهيد فؤاد شكر، ولا القائد الشهيد إبراهيم عقيل إلا بعد استشهادهم وفي ذلك دليلٌ أن لدى المقاومة العشرات والعشرات أمثال القادة الشهداء، إضافةً لدماء عشرات المجاهدين والمدنيين الذين لم يتخلوا عن المقاومة حتّى الرمق الأخير.
3 – يقين بالنصر القادم
“هل يمكن التغلب على المسار الجديد لمشروع الشرق الأوسط الجديد؟ نعم يمكن للبنانيين والفلسطينيين والسوريين وشعوب المنطقة التغلب وإلحاق الأذى بالمسار الجديد”. كانت تلك الرؤية للأمين العام في العام 2014 مستندًا إلى عوامل وعناصر النصر والجهد والعمل الذي “يسنده الدعاء”، طارحًا انتصار تموز كنموذج استطاعت المقاومة الصمود فيه وتعاظمت شعبيتها وقدراتها، ومانعةً الحرب من الامتداد إلى سورية وبقية دول المحور بحسب المخطّط الصهيوني وكلّ ذلك بفضل الصمود في لبنان الذي عطل هذا المشروع، كلّ ذلك يضاف إليه العامل النفسي والروحاني لدى السيد حسن، الذي يمتلك ثقة عالية وإيمانًا كبيرًا بأننا شعوب خُلقنا لننتصر لا كي ننهزم ونيأس، مما يساهم في بناء روحية صلبة وقادرة على المواجهة حتّى بعد استشهاده الذي بات دافعًا أكبر للصمود.
كانت نتيجة تلك العوامل بيئة مقاومة حاضنة وصابرة ومتحملة لكل مآسي العدوان الصهيوني على لبنان، من تدمير للمنازل والقرى الجنوبية والبقاعية، وصولًا إلى ارتقاء الشهداء والتهجير الذي يعيشونه. لم يجعلهم ذلك إلا أكثر ثباتًا وإيمانًا بخط المقاومة ولا تُسمع منهم إلا عبارات الصمود والتحمل “باقيين هون بأرضنا” “فدا السيد” “بيوتنا مفتوحة للمقاومة” “بيتي فدا الشباب عالجبهة” وغيرها الكثير والكثير الذي لا يُعد ولا يُحصى. هذه البيئة الحاضنة هي الأساس في المواجهة وبقاؤهم في أرضهم هو الـ “لا” أمام كلّ قوى الاستكبار في العالم.
الحرب صعبة وشرسة وخبيثة، وفي هذا النوع من الحروب تكون الركيزة الأساسية هي الإدراك، ولم يكن هناك من هو أفضل من الشهيد السيد حسن نصر الله في العقود الثلاثة الأخيرة لبناء هذا الإدراك وتراكم الوعي الذي يُمهد للنصر القادم، ومع الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم تستمر هذه المسيرة وتنتصر ويفشل مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.