محمد علي | خاص الناشر
لا يخفى أنّ قرار سحق المقاومة يعود بالحدّ الأدنى إلى الحرب على سوريا، ولذا كانت هذه الحرب حرباً يخوضها محور المقاومة منعاً لمشروع أعمّ وأوسع من حدود فلسطين. ولم تكن عمليّة “طوفان الأقصى” سوى هجوم استباقيّ ضدّ قوّات الاحتلال بعد أن كان قرار القضاء على المقاومة الفلسطينيّة قد اتُّخذ. وبعد أن تمّت العمليّة بنجاح، سارع العدوّ إلى ارتكاب تطهير عرقيّ ممنهج وإبادة جماعيّة ربّما تكون الأكبر في تاريخنا الحديث..
لم يكن حزب الله يعلم مسبقاً بأنّ المقاومة الفلسطينيّة ستقوم بعمليّة “طوفان الأقصى”، ولكنّه – انطلاقاً من كونه جزءاً أساسيًّا من محور المقاومة، والتزاماً بالتّكليف الشّرعيّ الموجب للدّفاع عن الشّعب الفلسطينيّ المظلوم – قرّر رأساً مساندة المقاومة الفلسطينيّة من خلال إعلان الدّخول إلى المعركة بعنوان “جبهة الإسناد”. ومن خلال ما ذكره السَّيِّد الشّهيد يمكن المصير إلى أنّه كان لدى حزب الله عدّة أهداف في هذه الحرب، بعضها أعمّ من الآخر بحكم انقسام الحرب إلى مرحلتين: الأُولى ما بدأ عند بداية فتح جبهة الإسناد، والثّانية ما بدأ عند انتقال الحرب الأساسيّة من فلسطين إلى لبنان..
١. الأهداف
▪︎ أداء التّكليف الشّرعيّ في مساندة الشّعب الفلسطينيّ المظلوم قدر المستطاع
قال قُدِّس سرُّه: “المعرفة يجب أن تؤدّي إلى تحمُّل المسؤوليّة، إلى نصرة الحقّ، إلى الوقوف إلى جانب أصحاب الحقّ المظلومين، المعذَّبين، المضطهدين؛ طبعاً ضمن القدرة. الله لم يطلب من النّاس أكثر من قدرتهم، التي يحكِّموها ضمن ضوابط وأولويّات وظروف ومعطيات [..] يوم القيامة سيُسألون، كل المكلّفين، رجالًا ونساءً، سيُسألون عن فلسطين وعن جبهات المنطقة وعن تداعيات هذه المعركة وعن موقفهم، عن عملهم، عن سلوكهم، ماذا قالوا؟ ماذا فعلوا؟ ماذا قدّموا؟”[¹]
كما قال بعد ذلك بيومين: “نحن لسنا فقط مسؤولين عن أنفسنا وعن عائلاتنا، بل نحن مسؤولين عن الناس، وهذا ضمن دائرة القدرة والطاقة، ونحن ما فعلناه ضمن دائرة القدرة والطاقة، راعينا فيها بدرجة كبيرة المصالح الوطنية والفعل الميداني المساند والمساعد والضاغط والمؤثر، وبالتالي بقينا في دائرة القدرة، ولو لم نفعل ذلك بالتأكيد سوف نُسأل يوم القيامة”.[²]
▪︎ حفظ المقاومة الفلسطينيّة
لا شكّ أنّ حفظ القضيّة الفلسطينيّة والدّفاع عن الشّعب الفلسطينيّ متوقّف على حفظ المقاومة الفلسطينيّة باعتبارها أبرز وجوه رفض الاحتلال، كما أنّها المحامي الأوّل عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ في صراعه التّاريخيّ مع العدوّ الصّهيونيّ. وكان قُدِّس سرُّه قد أشار إلى ذلك بقوله: “قلنا، في الأيّام الأُولى، لا يجوز أن نسمح بأن تهزم المقاومة في غزّة”.[³] ويزداد هذا الهدف وضوحاً أيضاً بلحاظ الهدف التّالي..
▪︎ التّخفيف عن غزّة من خلال الضّغط والإشغال
ذكر قُدِّس سرُّه متحدِّثاً عن طبيعة “الإسناد” أنّه “من خلال هذا الاستنزاف والضّغط المتواصل نستطيع أن نُشغل جزءاً كبيراً من قوّات العدوّ وقدراته عن التَّفرُّغ لغزّة وحسم المعركة في غزّة، ونستطيع أن نضغط على العدوّ وجيشه ومجتمعه ليفهم أنّ وقف إطلاق النّار في الشّمال مرتبطٌ بوقف إطلاق النّار في غزّة. فإذا أردتَ للشّمال أن يهدأ؛ فعليك أن توقف العدوان على غزّة”.[⁴]
▪︎ حفظ المقاومة الإسلاميّة والدّفاع عن لبنان
قال قُدِّس سرُّه متحدِّثاً عن أبعاد المعركة أنّ “النّوبة” بعد غزّة ستكون في جنوب لبنان، وقد أكّد أنّ “المعركة اليوم ليست فقط من أجل فلسطين؛ هي بدأت من أجل فلسطين وهذه كانت النِّيَّة الكاملة، ولكن هي أيضاً من أجل جنوب لبنان، من أجل كلّ حبّة تراب في جنوب لبنان وخصوصاً في جنوب اللّيطانيّ”.[⁵] وأوضح ذلك في خطاب آخر قائلاً: “وضعنا لها هدفاً ثانياً [..] وهو منع أيّ عمليّة استباقيّة للعدوّ باتّجاه لبنان، لأنّه كان يُفكّر بذلك. في ٧ تشرين كان العدوّ يُفكّر بذلك، وهذا لاحقاً قالوه [ضمن] النّقاش الذي حصل داخل حكومة العدوّ”.[⁶] كما قال أيضاً: “لولا دخول لبنان في هذه الجبهة لكان لبنان سيتحمل الكثير من الخسائر في المستقبل لو قُدِّر لا سمح الله للعدوّ أن ينتصر”.[⁷]
▪︎ إفشال مخطّط التّطبيع ومنع قوى الاستكبار من تغيير وجه المنطقة
لقد بيّن السَّيِّد الشّهيد أنّ إنجاز مشروع التّطبيع كان مشروطاً بطيّ صفحة القضيّة الفلسطينيّة. قال قُدِّس سرُّه: “فلسطين التي كان بعض الحكّام العرب سيوقّعون حكم موتها من خلال اكتمال آخر مراحل التّطبيع مع العدوّ الإسرائيليّ والذي كان متوقّعاً أن يحصل خلال أشهر. الهدف كان إعادة فلسطين إلى العالم، إلى الذّاكرة، إلى الوجدان، إلى الحياة، إلى المعادلات، إلى المعركة، إلى الميدان، إلى الإنجاز، إلى استعادة الحقوق”.[⁸] من هنا أشار مراراً إلى أبعاد المعركة مؤكّداً بأنّها “تصنع مصير فلسطين ومصير لبنان ومصير المنطقة على المستوى الاستراتيجيّ والأمنيّ والقوميّ؛ على المستوى الكبير بعيداً عن الزّواريب السّياسيّة والحسابات السّياسيّة الضَّيِّقة”..[⁹]
٢. الإستنزاف
واعتمد حزب الله أُسلوب الاستنزاف، وهو مقتضى كونه مقاومة أوّلاً وبالذّات. قال السَّيِّد الشّهيد في آخر خطاب له، وهذا طبعاً له دلالات: “نحن دائماً نقول بأنّ المهمّ أن تلحق الهدف وتعطّل الهدف وأن تهزم العدوّ وتُفشل العدوّ من خلال منعه من تحقيق هدفه. معركة المقاومة هكذا، بكلّ التّاريخ هكذا كانت معركة المقاومة، مقاومة الشّعوب”.[¹⁰]
كما أنّه الأنسب استراتيجيًّا من جهة إدارة المعركة، حيث إنّ إضعاف الكيان الصّهيونيّ يبقى من الأهداف الدّائمة للمقاومة بغضّ النّظر عن جولات ومراحل الصّراع الأعمّ. وقد عبّر قُدِّس سرُّه عن المعنى الأوسع للاستنزاف قائلاً: “نحن، منذ البداية، أردنا لهذه الجبهة – أي جبهة الإسناد اللّبنانيّة كما هو حال بقيّة جبهات الإسناد – أن تحمل الأهداف نفسها: استنزاف جيش العدوّ وقدرات العدوّ بشريًّا، استنزاف العدوّ عموماً؛ بشريًّا وماديًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا ونفسيًّا، وهذا ما تحقّق حتى الآن”.[¹¹]
٣. الإنتقال إلى المرحلة الثّانية
عندما وجد العدوّ الصّهيونيّ نفسه عاجزاً عن حسم المعركة في غزّة ضدّ المقاومة الفلسطينيّة، كان لا بُدّ له أن يعالج الأزمة في الشّمال حيث كان الاستنزاف مستمرًّا من قِبل الحزب، الأمر الذي يمكن اعتباره بداية التَّحوُّل في الحرب. وقد صرّح السَّيِّد الشّهيد بذلك قائلاً: “نحن أمام معركة كبرى تجاوزت فيها المسألة مسألة جبهات الإسناد [..] هذه لم تعد جبهات، بل هذه معركة مفتوحة في كلّ الجبهات، ودخلت في مرحلة جديدة [..] نحن في كلّ جبهات الإسناد الآن دخلنا في مرحلة جديدة”.[¹²] على أنّه أكّد أنّ هذه المرحلة “يتوقّف تصاعدها على سلوك العدوّ وردّات فعل العدوّ”.[¹³] وكان قيام العدوّ بمجزرتي تفجير البايجرز وتفجير الأجهزة واغتيال العديد من القادة البارزين في الحزب دليلاً واضحاً أنّ نقل الجبهة الأساسيّة إلى لبنان كان ضمن مخطّطات العدوّ في الأساس. وكانت علامته حملة الغارات التي شنّها العدوّ عند اندلاع الحرب في لبنان بشكل واضح ثمّ اغتيال السَّيِّد الشّهيد أعلى الله مقامه بعد ذلك..
٤. وقف إطلاق النّار
استمرّت الحرب على لبنان لمدّة حوالي شهرين بعد شهادة سيّد المقاومة وكما جرت العادة كنّا نسمع بعض الكلام عن وقف إطلاق النّار هنا وهناك. ولكن كان موقف المقاومة صريحاً بأنّ ما لم يحقّقه العدوّ في الميدان لا يمكن أن يحقّقه في المفاوضات. وبالفعل، عجز العدوّ عن فرض شروطه في المساعي الأُولى للوصول إلى وقف إطلاق النّار فعاد وأعلن عن عمليّة برِّيَّة موسّعة بهدف الوصول إلى قرى الخطّ الثّاني، فعجز وكانت هزيمته. وبطبيعة الحال بدأ السّؤال عن مدى انسجام قبول وقف إطلاق النّار في لبنان مع الأهداف، ومع التّكليف، ومع استراتيجيا المحور. ويمكن الإجابة عن ذلك في ضوء كلمات السَّيِّد الشّهيد رضوان الله عليه..
▪︎ أهداف المرحلة الأُولى
في الواقع إنّ هذا التّساؤل في غير محلّه، لأنّ أهداف المرحلة الأُولى تحقّقت بالفعل. فلا ينبغي أن يُقال: لقد تخلّى الحزب عن التّكليف الشّرعيّ. لأنّ التّكليف الشّرعيّ في وجوب مساندة الشّعب الفلسطينيّ على قدر الطّاقة وضمن القدرة كما ذكر السَّيِّد الشّهيد.[¹⁴] كما لا ينبغي أن يُقال: لقد تخلّى الحزب عن المقاومة الفلسطينيّة والشّعب الفلسطينيّ. فإنّ هذه الأهداف مندرجة أيضاً ضمن المرحلة الأُولى المعنونة بالإسناد، وقد نجح في التّخفيف والإشغال، وهو ما دفع العدوّ إلى نقل الحرب الأساسيّة إلى لبنان كما عرفت. وهذا تغيّر موضوعيّ، وقد أشار السَّيِّد الشّهيد إلى دور المعطيات والمستجدّات كالخسائر الاستراتيجيّة أو تبدُّل أو تطوُّر أهداف العدوّ في أداء الحزب.[¹⁵] وقد بيّن أنّ المعيار عند المقاومة هو منع العدوّ من تحقيق أهدافه.[¹⁶]
▪︎ استراتيجيا المحور
كما لا ينبغي أن يُقال: إنّ هذا غير منسجم مع استراتيجيا المحور. فقد بيّن السَّيِّد الشّهيد أنّ “هناك مفاهيم ورؤية استراتيجيّة واضحة في محور المقاومة؛ الأعداء مُحدَّدون، الأصدقاء معروفون، الأهداف واضحة، إلى أين يجب أن تصل المنطقة؟ ما هي مصلحة شعوب المنطقة؟ اين يكمن أمنها وأمانها وكرامتها وعزَّتها وحرِّيَّتها وسيادتها واستقلالها؟ هذا كلُّه واضح. في الرّؤية لأمريكا، في الرّؤية للمشروع الإسرائيليّ، في الرّؤية لأوضاع المنطقة. ولكنّ كلّ حركة مقاومة وكلّ دولة في محور المقاومة حيث هي تتصرّف بقرارها. هي التي تقرّر، هي التي تحدّد، هي التي تفتح الجبهة أو تُغلق الجبهة، هي التي تهادن أو تحارب، هي التي تتّخذ هذا الموقف أو ذاك الموقف انسجاماً مع الرّؤية الاستراتيجيّة ومواءمةً وانسجاماً مع المصالح الوطنيّة والملاحظات الوطنيّة. لأنّ كلّ واحد منّا يعيش في بلد [..] هذه الصّيغة المبدعة. لا يُملي أحد على أحدٍ شيئاً ولا يأمر أحد أحداً، نتشاور، نتبادل الآراء، نتبادل النّصائح، نستفيد من تجارب بعضنا البعض، ولكنّ كلّ واحد يأخذ القرار في بلده بما ينسجم مع الرّؤية الاستراتيجيّة وبما ينسجم مع مصالح شعبه وبلده”.[¹⁷]
ولولا هذا الاستيعاب لكيفيّة عمل محور المقاومة لما رأينا قيادة المقاومة الفلسطينيّة تتعامل مع وقف إطلاق النّار في لبنان بهذه الإيجابيّة..
▪︎ أهداف المرحلة الثّانية
أمّا أهداف المرحلة الثّانية، فإنّه من الواضح أنّ المقاومة تصدّت بنجاح لقوّات العدوّ الصّهيونيّ ومنعته من سحق المقاومة في لبنان، بل ومن احتلال أيّ قرية في جنوب لبنان بما فيها القرى الحدوديّة. ولو تمكّن من هزيمة المقاومة لكانت خطوة كبيرة نحو تغيير وجه المنطقة. ولذا فإنّ منعه من أهدافه الخاصّة والعامّة دليل على نصر المقاومة كما ذكر السَّيِّد الشّهيد. على أنّ هذا انتصار للمحور ككلّ ومع الوقت ستتبيّن آثاره إن شاء الله تعالى..
وإنّ مجرّد قبول العدوّ بأصل التّفاوض – بعد أن كان يتحدّث بصراحة عن سحق حزب الله وتغيير وجه المنطقة – من الشّواهد المهمّة على هذا النّصر بعموم أبعاده. فكيف بقبوله بالعودة إلى قرار ١٧٠١، والذي يمثّل معادلة ما قبل عمليّة “طوفان الأقصى” بما تتضمّن من العوامل التي سمحت بتطوُّر قدرات المقاومة ليس فقط في فلسطين ولبنان بل على مستوى المحور بشكل عام. ولا ينبغي أن يُقال: إنّ السَّيِّد الشّهيد قد صرّح بأنّ القبول بوقف إطلاق النّار والعودة إلى قرار ١٧٠١ غير مقبول ومعناه أنّ “كلّ ما قدّمناه من تضحيات ومن شهداء ومن جهود ومن مواجهات قاسية ودامية خلال عام يكون ذهب سُدى”،[¹⁸] فهو غير دقيق لأنّه ناظر إلى القبول به قبل تحقُّق الأهداف البعيدة المدى وقبل تحقُّق المستوى المطلوب من استنزاف العدوّ وقبل هزيمته في لبنان. وهذا يعني فرض المواجهة المحصورة التي لا يريدها العدوّ في غزّة، والتي إنّما أراد استدراج إيران وإعطاء أمريكا ذريعة للدّخول من أجل أن يتخلّص منها..
لقد كان العدوّ الصّهيونيّ يواجه صعوبة حقيقيّة في حسم المعركة ضدّ المقاومة الفلسطينيّة ضمن المرحلة الأُولى، فكيف بعد ما أصابه من الوهن والخسائر الفادحة في حربه مع الحزب في لبنان؟! هذا ويجب ألّا ننسى أنّ أصل دخول الحزب – في المرحلة الأُولى – كان على أساس أُسلوب الاستنزاف الذي كان يهدف إلى منعه من الاستمرار في توسيع نطاق الحرب على المقاومة في المنطقة – كما ذكرنا – وأمّا تحديد كيفيّة استمرار العمل المقاوم فهو موكل إلى القيادات المعنيّة والعارفة بأهداف العدوّ وقدرات محور المقاومة وغير ذلك من الأُمور الدّاخلة في تشخيص التّكليف واستكمال المسيرة على طريق القدس..
[¹] كلمة سماحته بتاريخ 07/06/2024
[²] كلمة سماحته بتاريخ 09/06/2024
[³] كلمة سماحته بتاريخ 11/07/2024
[⁴] كلمة سماحته بتاريخ 11/07/2024
[⁵] كلمة سماحته بتاريخ 05/01/2024
[⁶] كلمة سماحته بتاريخ 24/05/2024
[⁷] كلمة سماحته بتاريخ 31/05/2024
[⁸] كلمة سماحته بتاريخ 13/05/2024
[⁹] كلمة سماحته بتاريخ 31/05/2024
[¹⁰] كلمة سماحته بتاريخ 19/9/2024
[¹¹] كلمة سماحته بتاريخ 11/07/2024
[¹²] كلمة سماحته بتاريخ 01/08/2024
[¹³] كلمة سماحته بتاريخ 01/08/2024
[¹⁴] الهامش الأوّل والثّاني
[¹⁵] كلمة سماحته في الأول من محرم 07/06/2024 وكلمة سماحته بتاريخ 01/08/2024
[¹⁶] الهامش العاشر
[¹⁷] كلمة سماحته بتاريخ 03/01/2024
[¹⁸] كلمة سماحته بتاريخ 19/9/2024