محمد علي | خاص الناشر
بعد سلسلة الاغتيالات التي قام بها العدوّ، تحدّث بنيامين نتنياهو عن إنجازاته فتباهى بأنّه قضى على آلاف “الإرهابيّين” في صفوف الحزب، بمن فيهم السيّد حسن نصر الله نفسه، و”خليفته” – مشيرًا إلى السيّد هاشم صفيّ الدّين وإن لم تكن المقاومة الإسلاميّة قد نعته رسميًّا آنذاك، بل كان النّاطق باسم جيش العدو نفسه يقول بأنّ نجاح عمليّة الاغتيال ما زال غير مؤكّد – و”خليفة خليفته”، أي الشيخ نبيل قاووق[¹]. كانت هذه إحدى محاولات نتنياهو لإقناع الدّاخل الاسرائيليّ والرّأي العام العالميّ بأنّ هدف القضاء على المقاومة، وهو شرط تمرير مشروع التّطبيع، لم يزل قابلًا للتّحقيق بعد عمليّة “طوفان الأقصى”. لكنّ نتنياهو كان يعتقد أنّ الاغتيالات ستؤدّي إلى انهيار الحزب بشكل تامّ وإلى الأبد.
في المقابل، كنّا نؤكّد أنّه بالرّغم من أهمِّيَّة هذه الشّخصيّات وحجم تأثيرها ومهارتها القياديّة وإنجازاتها التّاريخيّة، فإنّ الحزب ليس منظّمة جامدة ومحدودة، وإنّ هويّته العقائديّة تضمن له من الدّوافع والمرونة ما يكفي لاستيعاب أشدّ الضّربات وأعنفها؛ وهو ما حصل فعلًا كما لا يخفى.
على أنّ الماديِّيِّن تأخّروا في فهم ذلك. فبعد احتفالهم بـ “إشلال” الحزب، بدأت الآراء المعاكسة تبرز في وسائل الإعلام، إلى أن كتب بعضهم منذ أيّام: “بحسب منطقه – [أي نتنياهو] – ومنطق مسؤولين آخرين في الحكومة الاسرائيليّة، ستساعد هذه الاغتيالات في تدمير حزب الله بشكل نهائيّ. لكنّ الحقيقة أنّه من غير المرجّح أن تنجح [الاغتيالات] في ذلك. إنّ حزب الله منظّمة بعمر أربعين سنة تتمتّع بقاعدة شعبيّة كبيرة، وهو حزب سياسيّ ممثَّل في البرلمان والحكومة اللّبنانيّة، كما يتمتّع بدعم إيرانيّ رسميّ. فهو مرن وقابل للتَّكيُّف [..] إنّ الاغتيالات تكتيك، وليست حلًّا سياسيًّا”[²].
كان ينبغي للبعض أن يعلم بأنّ الاغتيالات لا تعوّض عن تأخُّر العدوّ في اتّخاذ قرار نقل الأولويّة العسكريّة إلى الجبهة الشّماليّة، ولا تغيّر في واقع جيشه الذي جاء منهكًا بعد مواجهة المقاومة الفلسطينيّة، ولا تعطِّل القوّة الصّاروخيّة أو القوّة الجوِّيَّة، ولا تدفع قوّة الرّضوان إلى خلف نهر اللّيطانيّ.
نعم، بالإضافة إلى التّأثير النّفسيّ والمعنويّ، قد تلغي اغتيالات بهذا الحجم بعض السّيناريوهات العسكريّة المُحتملة، الأمر الذي ذكره بعض المحلِّلين في تقرير منذ حوالي شهر حيث ذكروا أنّ اغتيال القادة الميدانيّين يجعل سيناريو الهجوم البرِّيِّ من قبل الحزب أمرًا صعبًا لما تُحدثه تلك الاغتيالات من خلل في القيادة والسّيطرة[³]. ولكنّ الواقع أنّ المقاومة الإسلاميّة لم تكن تنوي ذلك أصلًا، فإنّ دخولها في هذه الحرب كان تحت عنوان “الإسناد”، أي الضّغط على العدوّ من أجل إيقاف العدوان على غزّة.
اليوم، بات من الواضح أنّ الاغتيالات لم تقرِّب العدوّ من تحقيق أهدافه البتّة. فهو لم يقضِ على حماس في غزّة، ولم يحرّر من تبقّى من المستوطنين الأسرى بعد أن قتل عددًا كبيرًا منهم استنادًا لـ “عقيدة هانيبال”. وأمّا في لبنان، فإنّ هدفه كان رفع المانع من عودة المستوطنين إلى الشّمال. فماذا حصل؟
سقط رهانه على الاغتيالات، كما استنفدذ بنك أهدافه باكرًا، وسرعان ما مضت الصّدمة التي ظنّ أنّها ستكون كفيلة بقلب المعادلات كافّة. وقد أكّد الشيخ نعيم قاسم على تعافي الحزب من تلك الضّربات المؤلمة قائلًا: “ليس لدى المقاومة موقع شاغر، بحيث إنّ كلّ المواقع مملوءة، فيما يعمل حزب الله بكامل جهوزيّته وانتظامه”[⁴]. ثمّ في خطاب آخر منذ نحوا أسبوعين، ذكّر – وهنا كان قد انتُخب أمينًا عامًّا للحزب – بالمعيار الذي وضعه السيّد نصر الله أعلى الله مقامه قائلًا حول تعافي الحزب: “على كلّ حال، الميدان هو يثبت ذلك”[⁵].
ومعنى ذلك أنّ المناط على متابعة المقاومة لبرنامجها وتمكُّنها من الحفاظ على الاستقرار العمليّاتيّ؛ وبالفعل، لقد نجحت المقاومة – بحمد الله – في استيعاب صدمة الاغتيالات، وهذا أمر واضح من خلال العمليّات اليوميّة؛ من عمقها وعددها ووتيرتها، ونوعيّة الصّواريخ والمسيّرات التي تُدخلها المقاومة إلى المعادلة تدريجيًّا، ثمّ طبيعة الأهداف التي تستهدفها، فهي ترمي المستوطنات وتجمُّعات الجنود والآليّات والقواعد البرِّيَّة والبحريّة والجويّة وغيرها بما يخدم أهدافها الاستراتيجيّة (بخلاف العدوّ) وبشكل متصاعد.
في هذا الأُسبوع، أدخلت المقاومة عدّة أهداف جديدة تحت النّار، منها قاعدة حيفا البحريّة، وموقع أفيتال، ومصنع يكنعام عيليت، وقاعدة هحوتريم. هذا والكلام حول البطولات الدّفاعيّة أمر آخر، فقد نجحت المقاومة في إسقاط عدّة مسيّرات للعدوّ، أو التَّصدِّي لبعضها وإجبارها على مغادرة أجواء البلاد، كما لم يتمكّن الجيش الإسرائيليّ من السّيطرة على أيّ قرية جنوبيّة بما فيها القرى الحدوديّة[⁶].
ختامًا، إنّ لنا – نحن الإماميّة – رؤية عقائديّة تجاه هذا الموضوع تفوق ما ذكرناه أهمِّيَّة وتأثيرًا. خلاصتها أنّ عروج “الأسماء الكبيرة” أوضح الأدلّة على صدق المقاومة في موقفها، فالذين استُشهدوا من القادة الكبار المجهولين هم زبدة البشريّة بعد الأنبياء والأوصياء وأهل التُّقى من العلماء، وهم حملة مشروع الإسلام وفي طليعة المدافعين عن المظلومين في العالم. لذا يعلمون أنّ الاصطدام مع أعداء الله أمر طبيعيّ، ويتوقّعونه في أيّ لحظة، ولا يؤمنون أنّ البقاء على قيد الحياة هو هدف في حدّ نفسه، بل يرونه عارًا إذا كان مشروطًا بالتّقصير في مسؤوليّاتهم. إنّ عروج “الأسماء الكبيرة” يعني أنّ المقاومة مخلصة لله تبارك وتعالى، وأنّ الامتحان الإلهيّ قائم ومستمرّ، وأنّ الصّبر الواجب بات أوجب، وأنّ المؤمن لا بُدّ أن يثبت على عهده مع الله تعالى حتى يكون محلًّا لنصره.
[¹] خطاب نتنياهو بتاريخ ٨ أكتوبر ٢٠٢٤
[²] مقالة نُشرت على موقع Foreign Affairs بتاريخ ١١ نوفمبر ٢٠٢٤ بعنوان:
“Targeted Killings Won’t Destroy Hezbollah”
[³] مقالة نُشرت على موقع CSIS بتاريخ ٤ أكتوبر ٢٠٢٤ بعنوان:
“Escalating to War between Israel, Hezbollah, and Iran”
[⁴] خطاب سماحة الشيخ نعيم قاسم بتاريخ ٨ أكتوبر ٢٠٢٤
[⁵] خطاب سماحة الشيخ نعيم قاسم بتاريخ ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٤
[⁶] راجع بيانات القناة الرّسميّة للاعلام الحربيّ على تطبيق “التيليغرام”