دراويش السيد حسن

سمر محمد سلمان | خاص الناشر

يسمينا البعض دراويش ومجاذيب السيد حسن ويستخدمون كلمة “تقديس” في مبالغة مقصودة وفي فهم قاصر عن إدراك كنه العلاقة التي بيننا وبينه، مردّدين الأسطوانة المعروفة التي تقلل من أهمية الفرد وتأثيره… الى ما هنالك من أدبيات في عشق “المؤسسة” ونبذ الفرد، يُسقطها مجرد نظرة إلى تاريخ بلادنا وتأثير الفرد في الأمة وفي التكوين النفسي والاجتماعي لشعوب المنطقة.

لهؤلاء أقول أجل نحن العاشقون المسحورون المجذوبون المبهورون.
أجل نحن دراويش السيد حسن.
لكن لماذا؟ لم تكلفوا أنفسكم عناء أن تسألوا لماذا؟ وكيف لهذا الرجل البسيط الآتي من الفقر ومساكن الصفيح في الكرنتينا أن يغدو قائدًا استثنائيًّا ومحررًا أمميًّا يبسط سحره على العالم؟

في الحقيقة الموضوع بسيط وعقلاني ومنطقي وليس فيه شعوذات ولا حلقات ذكر ولا غيرها. الأسباب موضوعية إلى أبعد مدى. هذا رجل صدق بشدة في عصر الزور والبهتان وأخلص بشدة في عصر الغدر والخيانة وقدم التضحيات الجسام وقاد مسيرة كفاح وجهاد بشجاعة وإخلاص وحوّل المقاومة من ثلة من المؤمنين المخلصين إلى مارد يخشاه العالم ويحسب له ألف حساب في سابقة تاريخية صعب أن تتكرّر.

هذا الرجل سعى لمواكبة كلّ تطوّر يعزز قوة مقاومته وأعد لعدوه بالفعل ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل كما يقول الكتاب في المعنى الرمزي للقوة.

هذا الرجل أيقظ في الأمة طاقاتها الكامنة مثلما فعل عبد الناصر. وأدرك حقيقة الصراع وعمقه مع قوى الهيمنة على أمتنا ومقدراتنا. في ظله لم تعد الحرب، في حال فرضت علينا، مجرد معركة عسكرية بل غدت فعلًا إبداعًّيا يترقب الناس مفاجآتها الخلاقة ولا يخافونها، فقد أيقظ في الناس الأمل وأسقط هيبة العدوّ وجبروته التي عمل على تظهيرها منذ احتلال أرضنا، وحين أطلق نظرية أوهن من بيت العنكبوت أصاب روح العدوّ في مقتل وعبث بوجدانه بشدة في حرب نفسية بالغة الذكاء والبصيرة حتّى أصبح ملكها دون منازع باعتراف أعدائه، وجعل لبنان الصغير المعتدى عليه منذ نكبة ١٩٤٨ الرقم الأصعب في “الصراع العربي الإسرائيلي” (عذرًا على استخدام تعبير أصبح من التراث) بعد أن كان العدوّ يتباهى بقدرته على غزونا بفرقة موسيقية.

هذا الرجل حوّل كربلاء من مجرد مناسبة عاشورائية وذكرى ماضوية إلى ذكرى ملهمة وحاضر نابض بالحياة والحداثة والقوّة والعزيمة، فلم يعد البكاء تفجعًا سلبيًّا بل غدا الحزن ثائرًا والتباكي انتفاضة روح على الظلم والطغيان في إسقاط عبقري بأبعاده العسكرية والروحانية والدنيوية للفعل المقاوم.

هذا الرجل النوراني العرفاني الاستثنائي كان تجسيدًا خلابًا للحب وبالتالي الإحساس بعظم المسؤولية، فلم يكتف بقيادته السياسية والعسكرية إنما أراد حقًّا الإصلاح في دين جده. حاول جاهدًا أن يخلص المعتقدات والعادات من شوائبها ليجعلها صافية نقية من التعصب والخرافات.

أحدث اختراقًا مهمًّا في المشهد السياسي اللبناني وتعقيداته من دون أن يصيبه أي قدر من التلوث منتصرًا للأخلاق على أي شيء وهذا أمر في غاية الصعوبة في لبنان. ونجح في استيعاب الواقع والنفاذ بسلاسة من أوحاله وغدا رقمًا صعبًا لا يمكن تخطيه في أي معادلة سياسية داخلية أو خارجية، لا رغبًة في سلطة شارك فيها حزبه مكرهًا بعد اغتيال رفيق الحريري، أبدًا بل حمايةً للمقاومة من المؤامرات والطعنات في الظهر ومن كلّ الجهات.

هذا الرجل أنقذ البلد عشرات المرات من فخ الحرب الأهلية بحكمته وتعقله وصبره وحرصه وتلقى الطعنات بصدره ذودًا عن شعبه وبلده وترفّع عن أي انتقام شخصي أو ردة فعل غير مدروسة في كلّ موقف ومفترق واستحقاق.

لقد ذهب في التعقل إلى مديات لا يمكن تصورها في واقع الأمر إلى الحد الذي أصاب خصومه بالذهول وأفقدهم كلّ أسلحتهم وأسقط كلّ مخطّطاتهم، ولولاه لما بقي لبنان وسط رعونة زعماء الحرب والطوائف.

أما “الكاريزما” العالية والعقل الوقاد وتلك الابتسامة الساحرة البسيطة كتفتح وردة، فذاك من فيض الله يعرفه القاصي والداني المبغض والمحبّ.

هو ليس جيفارا ولا كاسترو ولا غاندي. لا أحد يشبهه. هو السيد حسن بذاته وتجربته الخاصة ابن بيئته، البسيط المتواضع المجبول بترابها المهموم بمعاناتها وأشواقها وأحلامها. هو السيد حسن الذي توّج مسيرته المشرفة باستشهاد أسطوري دفاعًا عن لبنان وفلسطين والأمة. هو قبس من نور بيت النبوة غشينا قولًا وفعلًا وتجسيدًا وروحًا. هو السيد حسن، عشناه فرحًا وفخرًا حتّى الثمالة واحترقنا بفقده حتّى الثمالة.

أجل كنا دراويش السيد حسن، واليوم نحن دراويش ذكراه التي ستكون حتمًا خالدة كذكرى ناصر وأجمل وأعظم وأنقى صفحة في تاريخ بلدنا وأمتنا، وأوجع فقدٍ خبرناه وسنَخبره إلى الأبد.

السيد حسن نصر اللههام