العدو وذاكرة قرانا.. لن يكسر إرادة الحياة

د. محمد مهدي قصير | خاص الناشر

أن يستهدف العدو مراكز القرى أو ما يعرف بالضيعة القديمة، وهو النواة الأولى التي تشكّلت منها القرى وامتدّت، وعادةً ما تتضمن مسجد البلدة وساحتها، امرٌ مقصودٌ وهادفٌ بلا شك.
وليس نفيًا للأسباب العسكرية نظرًا لتلاصق الأبنية في الحارات القديمة وضيق الأزقة وتشعّبها فيما يصطلح عليه بالنسيج المديني المتضام، مما يجعلها مصيدة للغزاة وعائقًا أمام تقدم قواتها، ويفرض عليهم محوها لضمان عدم خروح المقاومة منها ثم الالتفاف حولها، غير أنّ أبعادًا أخرى يمكن نقاشها في همجيّته المدمّرة.
إذ إنّ هذه الأحياء هي المكان الذي عادةً ما يتواجد فيه الأبنية الأكثر قدمًا في القرى، وبيوتها القديمة، وحجارتها العتيقة، مسطباتها وساحتها والذكريات…
وما يستهدفه العدو فعلًا بضرب البيوت الخالية من أهلها هو ذاكرة المكان وهويّته… المجال المديني الذي شهد أكبر تفاعلٍ اجتماعيً في كلّ قرية، الأزقة التي شهدت قصص الطفولة وحكايات النخوة والايثار، الروايات المتناقلة عبر الأجيال عن الغيرة والحميّة ومساعدة الجار، عن التعب والكدّ والتعاون أو “المعونة” في بناء المنازل وجامع الضيعة.
يريد العدو ببثه صور هدمها كسر إرادة الحياة فيها، فماذا يعني تصويره نسف المسجد الذي يتوسّط القرى برمزيّته المدينيّة؟ غير محاولةٍ يائسةٍ منه ظنًا منه بأنّه يقوم بمحو الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة والدينيّة أو محو التاريخ والعنفوان، هذه المساجد الّتي تخرّج منها مئات المقاتلون الأشدّاء وعشرات الشهداء، وتعرّف فيها أهل القرية صغارهم على كبارهم، وتعلّمو فيها القيّم والدروس لن يتلاشى أثرها في النفوس، بل إن استهدافها سيزيد العزيمة ويشعل الغضب في قلوب الشباب.

أمّا ذاكرة المكان، فستسرجع بإعادة الإعمار، بنفس الحجارة العتيقة، بل إنّ روح المكان لن تغادره، ولو دمّر الحجر والشجر وفقدنا من الأعزاء ما فقدنا، ستبقى روحهم حية بيننا تجول في أزقة القرى وتلهم الباقين بالحفاظ على إرثهم وترداد قصصهم ومآثرهم. ستبقى الجغرافيا وما تبقى من المشاهد الطبيعية أحد العناصر الّتي تحفظ الهوية.
وستحكي الأجيال عن البطولات والملاحم، وعن الذلّ الّذي لحق بآلة التدمير والبطش… سيحكي التاريخ عن شباب جبل عاملة والبقاع ووقوفهم في وجه جبروت المعتدين الصهاينة. وعن عدم اكتراثهم لخذلان الأقربين والأبعدين، وعن هبّتهم للدفاع عن الأرض والعرض ونصرة المظلومين في فلسطين، وإبائهم للضيم. سيحكي التاريخ عن عاشوراء المتجددة لا في القلوب والأحزان واللواعج، بل بالميدان وأهله، عن كربلاء الّتي لم تغب ولم تمت لتولد من جديد، بل ما زالت حاضرة تتوقّد في كلّ حين… وستحكي الأجيال عمّن نصرو إمامهم بصرخة لبيك يا حسين…

هام