بدأت الحرب. أرض بيئة المقاومة بكلّ ما حوت ومن حوت هي قائمة الأهداف بالنسبة للعدو. وفي الدوير، مجزرة الفجر كانت إعلان الصهيوني عن بلوغه مرحلة الهستيريا قصفًا واستهدافًا للعائلات في البيوت، وما كان قصف الجسور إلا تقطيع أوصال لمحاصرة الناس ومنعهم من الانتقال إلى أماكن آمنة. ولهذا، كان كل بيت في الجنوب والضاحية والبقاع معرّضًا في كلّ لحظة للقصف، وكانت العائلات أمام خيارين: الصمود أو النزوح. والخياران مقاومة.
وإن كان في الخيار الأوّل مخاطرة كبيرة، فإنّ الثاني ليس أقل خطرًا، لا سيّما في ظلّ تربّص الطائرات المعادية بكلّ ما يتحرّك على الأرض. إلّا أنّ لكلّ عائلة ولكلّ فرد الأسباب التي تدعوه للبقاء أو للمغادرة ريثما تنتهي المعركة. ولعلّ أحد أبرز أسباب اتخاذ قرار البقاء في القرى كان الوجدان الذي يرفض الابتعاد عن الأرض ولو إلى حين. وإن كان هذا القرار يشكّل إرباكًا بشكل أو بآخر بالنسبة للمقاومة التي يحاول العدو ليّ ذراعها باستهداف المدنيين في بيوتهم وبارتكاب المجازر، فقد استطاع من قرّروا البقاء التخفيف من الإرباك عبر التواجد في أماكن آمنة نسبيًا كالملاجىء العتيقة الباقية، أو التجمّع حيث يُستبعد أن يقوم الصهاينة بالقصف. وهذا الاحتمال لم يكن دائمًا صائبًا إذ لم يتوانَ الصهاينة عن قصف كلّ مكان، وكلّ تجمّع حتى ذلك الذي ترتفع فيه راية “الأمم المتحدة”. من بقوا قالوا برضا يبلغ الفداء: لسنا أحقّ بالحياة من رجال الله الذين يقاتلون عنّا جميعًا، وإن مضينا شهداء فهو شرف جميل. وببقائهم حاولوا فعل كلّ ما يمكن فعله ليكون وجودهم نافعًا ومؤثّرًا في مجرى الحرب: من السيّدات اللواتي خبزن “المرقوق” ووضعنه حيث يمكن لأهل القتال أن يتذوقوه، إلى الرجال الذين انتظروا أن يكونوا عونًا في أرض المعركة. في حرب تموز، كان صمود الناس في القرى رغم الخطر الشديد رسالة إلى كلّ العالم: نحن أبناء هذا التراب وهذا الخطّ المقاوم.
أما بالنسبة لخيار النزوح فلم يكن خيارًا أقلّ شأنًا في المعيار الوجداني المقاوم؛ فالتخفيف من التواجد المدني قدر الإمكان يقلّل من بنك الأهداف الصهيوني الذي يستخدم قتل المدنيين كرسالة إرهاب وترويع. وبالتالي يصبح هذا النزوح المؤقت دعمًا للمقاومة ومؤازرة لها؛ فلا شيء كان يجرح قلوب رجال الله بقدر أخبار المجازر وصور الأطفال والنساء الذين يستقوي عليهم العدو من طائراته.
بعض النازحين خرجوا من القرى مدركين أن احتمال التعرّض للقصف مستمرّ حتى لحظة وصولهم إلى الأماكن التي صُنّفت آمنة، لسبب أو لآخر. ومن رآهم يومها، وهم يصلون إلى بيروت والمناطق منهكين متمتمين أن يا ربَّ النّصر انصر مقاومتنا، وشاهد عيونهم الذاهبة دومًا نحو الجنوب، يسهل عليه توقّع ما فعلوه في لحظة وقف إطلاق النار؛ فقوافل العودة التي أذهلت العالم يومها كانت الخيار المنطقي والطبيعي الوحيد الذي سيقوم به من نزحوا وتركوا في تراب البيوت قلوبهم وكلّ ما يملكون.
خاض أهل المقاومة حربهم للحقّ، نازحين وصامدين. قاوموا بكلّ ما استطاعوا من أدوات، صبروا، رفعوا ركام بيوتهم شارة فداء عزيز، تحلّقوا حول ابنتهم المقاومة أهلًا يدعمون ويحمون ويحرصون، وانتصروا بها ومعها، فناداهم سيّد المقاومة في مهرجان النصر الإلهي “يا أشرف الناس” وبقي جوابهم يتردّد حتى يومنا هذا: لبّيك!